ياسر عرفات ...من خنادق المقاومة إلى دهاليز السياسة

ياسر عرفات ...من خنادق المقاومة إلى دهاليز السياسة
ياسر عرفات ...من خنادق المقاومة إلى دهاليز السياسة

ياسر عرفات ...من خنادق المقاومة إلى دهاليز السياسة


مرَّت ثلاثة عشر عاماً على رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وتبقى صورته خالدة في الذاكرة الفلسطينية، عرفات الذي حمل القضية الفلسطينية منذ خمسينيات القرن الماضي حتى وفاته عام 2004، قضى الشق الأول من حياته حاملاً بندقيته في وجه الكيان الإسرائيلي، فطاردته إسرائيل من فلسطين أولاً إلى الأردن ثم لبنان حتى في تونس محاولةً اغتياله، وفي الشق الآخر من حياته وجد نفسه أمام عالم لا يرى حلاً سوى قيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنباً إلى جنب بسلام، فالتف إلى الشرعية الدولية وبدأ طريق "سلام الشجعان"؛ ليكتشف أنه عقبة في أي طريق للسلام من وجهة نظر إسرائيل.

وُلد محمد عبدالرؤوف عرفات القدوة الحسيني في 24 أغسطس عام 1929 في القاهرة، وتشير بعض المصادر إلى أنه ولد في 4 أغسطس عام 1929 في القدس، وهو أحد الأبناء السبعة لوالده التاجر الفلسطيني الذي يعيش في مصر، وأمه هي زهوة أبو السعود ذات صلة قرابة بمفتي القدس الحاج أمين الحسيني، وقد توفيت وهو في الرابعة من عمره، فأرسله والده إلى القدس ليمكث فيها أربع سنوات عند أقارب والدته، وتفتح الطفل على أحداث ثورة 1936.

عاد إلى القاهرة عام  1937 ودرس فيها ليلتحق بكلية الهندسة المدنية في جامعة الملك فؤاد (القاهرة حالياً) حتى تخرج عام 1951، وفي سن مبكرة انضم  عرفات إلى اتحاد طلاب فلسطين عام 1944 وترأسه خلال دراسته الجامعية، وبعد انهائه لدراسته الجامعية أسس جمعية اتحاد الخريجين الفلسطينية، أثناء ذلك شارك في المظاهرات المعادية للاستعمار الإنجليزي في مصر، كما شارك في تهريب الأسلحة من مصر إلى الثوار في فلسطين خلال النكبة، والتحق بالجيش المصري للمشاركة في صد العدوان الثلاثي عام  1956.

سافر ياسر عرفات إلى الكويت عام 1958 للعمل مهندساً، وهناك كون هو وصديقه خليل الوزير "أبو جهاد" ومجموعة من المناضلين حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" عام 1965، وأصدر مجلة تعبر عن هموم القضية الفلسطينية أطلق عليها اسم "فلسطيننا"، وحاول منذ ذلك الوقت إكساب هذه الحركة صفة شرعية فاتصل بالقيادات العربية للاعتراف بها ودعمها، ونجح بالفعل في ذلك فأسس مع إخوانه من المناضلين الفلسطينيين أول مكتب للحركة في الجزائر في الأول من يناير 1965، وأعلن الناطق الرسمي لها في 1968.

أثناء ذلك وبالتزامن مع هزيمة عام 1967 تولى ياسر عرفات قيادة المقاومة الفلسطينية من الأردن، وقام بتوجيه عمليات نوعية ضد إسرائيل كانت أشدها أثناء معركة الكرامة عام 1968، ونتيجة لخلافات بين منظمة التحرير والنظام الأردني اضطر ياسر عرفات إلى الخروج من الأردن خاصة بعد أحداث " أيلول الأسود" لتكون لبنان حاضنة لها.

انتخب المجلس الوطني الفلسطيني ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969 خلفاً ليحيى حمودة، وظل عرفات قائداً للمقاومة الفلسطينية في لبنان، التي ضيقت إسرائيل عليها الخناق في حصار بيروت عام 1982؛ فاضطر عرفات إلى الموافقة على الخروج من لبنان تحت الحماية الدولية، وتوجه إلى تونس التي كانت قد أعلنت موافقتها على استضافة القيادة الفلسطينية، وأسس فيها مقر القيادة الفلسطينية.

مسار المفاوضات:

بعد ما يقارب ثلاثة عقود من مسيرة الكفاح المسلح أيقن عرفات بأن الأفق مسدودة، وبأن لا مناص من حل الدولتين حيث تحقيق الدولة الفلسطينية فضلا عن الحفاظ على منظمة التحرير التي وصلت إلى منحدرات خطيرة في ذلك الوقت.

وفي أواخر الثمنينيات أعلن ياسر عرفات قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، في هذه الأثناء بدأ التحول الكبير يدب في منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة بعد خطاب ياسر عرفات أمام العالم أجمع عام 1988 الذي يعد إعلاناً من منظمة التحرير تعترف فيه بوجود دولة إسرائيل، كما أعلن عرفات مبادرة سلام فلسطينية تعيش في ظلها دولتان فلسطينية وإسرائيلية جنباً إلى جنب بسلام، مضيفاً نبذه كل أشكال الإرهاب والعنف.

ساهم هذا الموقف الذي أصبح يتبناه عرفات في تدويل القضية الفلسطينية ولفت العالم إلى إرادة الفلسطينيين في العيش بسلام فضلا عن اعتراف العديد من دول العالم بدولة فلسطين مستقلة، وقد استدعى هذا الموقف خطوات فعلية من ياسر عرفات، فبدأ بإجراء اتصالات سرية مع الإسرائيليين لدفع عملية السلام، ولم يثن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عرفات بالعدول عن موقفه، وكان لا بد لعرفات من الاستمرار في المفاوضات خاصة بعد موقف منظمة التحرير المتوتر مع دول الخليج بعد تأييدها للعراق.

توصل ياسر عرفات مع رابين عام 1993 إلى اتفاق أوسلو مؤكداً على موقف الاعتراف بدولة إسرائيل الذي غير مسيرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واستطاع عرفات أن يوجد كياناً فلسطينياً سُمي بالسطلة الوطنية الفلسطينية  داخل الأراضي الفلسطينية تعترف به إسرائيل لأول مرة.

وبعد عام توصل عرفات ورابين إلى اتفاق القاهرة لتنفيذ الحكم الذاتي في غزة وأريحا، ما مكن عرفات من العودة إلى غزة بعد 27 عاما قضاها في المنفى كرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية .

واستمر عرفات في مسيرته السلمية موقعا اتفاق طابا المصرية عام 1995، وانتخب بعدها رئيساً لسلطة الحكم الذاتي في أل انتخابات عامة في فلسطين وحصل على نسبة 83%.

وبالرغم من توسيع إسرائيل لمستوطناتها وعدم توقفها منذ بداية المفاوضات إلا أن ياسر عرفات يبقى مصراً على تحقيق السلام، فكان توقيع اتفاق  واي ريفر في الولايات المتحدة الأميركية عام 1998 الذي جمده نتنياهو بعد شهرين زاعماً أن عرفات لم ينفذ شروطاً أمنية، وصولاً إلى مفاوضات كامب ديفيد  عام 2000 التي انتهت بالفشل، وبعد عام أعلن عرفات رفضه لمقترحات أمريكية تتضمن التنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتقسيم القدس إلى عاصمتين واحدة لفلسطين والأخرى لإسرائيل.

رفْضُ عرفات للمقترحات الأمريكية بعد سنوات من المفاوضات جعل الإسرائيليين يرونه عقبة في تحقيق السلام، حتى ترددت أصوات إسرائيلية صريحة تنادي بتصفية عرفات جسديا أو اعتقاله أو طرده من أرضه.

وفي أواخر عام 2001 فرضت إسرائيل على عرفات حصاراً في مقره العام " المقاطعة" وبدت نوايا إسرائيل واضحة للعالم بإعلان شارون منع خروج عرفات من رام الله.

وقامت القوات الإسرائيلية  في  29 آذار 2002 بتدمير جزء من مقر عرفات محاولة طرده، إلا أنه أصر على البقاء في المقر رافضاً اقتراح شارون برحلة ذهاب فقط إلى الخارج، فحاولت السلطات الإسرائيلية عزله واعتباره "غير ذي صلة"، وتجريده من سلطاته كرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية.

خلال الحصار أدان عرفات باسمه وباسم القيادة الفلسطينية  "كل الاعمال الارهابية التي تستهدف مدنيين سواء كانوا إسرائيليين أو فلسطينيين، والإرهاب سواء مارسته دولة أو مجموعات أو أفراد".

وبعد رفع الجيش الإسرائيلي الحصار عن المقر في أوائل مايو عام 2002، أبقت السلطات الإسرائيلية  فرض حظر التنقل إلى الخارج على عرفات حتى تاريخ 29 أكتوبر 2004، حيث تدهورت صحته فنُقل إلى فرنسا للعلاج في مستشفى بيرسي العسكري، وظل يتلقى العلاج فيه حتى يوم وفاته فجر 11 نوفمبر 2004.

دُفن عرفات في مبنى المقاطعة في مدينة رام الله بعد أن تم تشيع جثمانه في مدينة القاهرة، وذلك بعد الرفض الشديد من قبل الحكومة الإسرائيلية لدفن عرفات في مدينة القدس كما كانت رغبته قبل وفاته.

كرَّس عرفات حياته من أجل قضية فلسطين، حتى أنه بلغ من العمر 60 عاماً ولم يتزوج بعد، وفي عام 1990 تزوج بسكرتيرة مكتبه السيدة سها الطويل - كان عمرها 27 عاماً - وهي سيدة مسيحية من آل الطويل الثرية، ورُزق منها بابنته الوحيدة زهوة

مشاركة على: