العقل الهارب
كنتيجة تلقائية لحجم الفساد المستشري في مجتمعاتنا العربية ، وكمحصلة للإقصاء والمحسوبية والترهل الإداري والكبت السياسي ، ناهيك عن عوامل الحروب والنزاعات المسلحة ، باتت ظاهرة الهجرة القسرية سمة بارزة في المجتمعات العربية التي أمست تنزف عقولها وشبابها نزيفاً مؤرقاً لا تجد لعلاجه كيّاً ولا دواء.
مئات الآلاف من الشباب السوري والمصري واليمني والفلسطيني والعراقي والليبي ، الآلاف من حملة الشهادات الأكاديمية الحقيقية العليا ، علماء وأطباء ومختصون في مجالات حيوية متعددة ، تحتضنهم اليوم أوروبا ودول الشتات واللجوء ، بصمت كئيب قاتل ، بعد أن وفدوا إليها من دولهم التي لم تعترف لهم بالفضل ولم ترع لهم حقاً ولا واجباً .
هذا الطوفان البشري من البلدان العربية الذي بدأ يملأ شوارع أوروبا اليوم هو حصاد التجربة الدكتاتورية في العالم العربي المترنح تحت وطأة الضغوط الخارجية والانبطاح الداخلي والكبت والفساد وحكم العسكر في بلداننا العربية ، وهو ما أفرز حالة من الفراغ الملموس في الشوارع العربية والملتقيات الثقافية والاتحادات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني ، في مقابل استثمار لا يمثل واحداً بالمائة من هذه الطاقات في البيئة الغربية، مما أوجد حالة من التيه المركّب لدى هذه النخب والكفاءات العربية الراحلة .
صحيح أن هذا العقل هرب بفعل الواقع ، ولكن فهمنا لهذا الواقع يحتم علينا أن نفهم أن هذا العقل الهارب هو الأمل وهو المستقبل ، وبين يديه مفاتيح التغيير المنشود فعلياً في الواقع العربي المأزوم ، فهذا الشباب المهجّر ، وهذه المقامات العلمية السامية الملاحقة ، وتلك القامات الأكاديمية والفكرية المطرودة من أوطانها تملك من الخبرة والتخصص والتجربة ما يؤهلها لأن تكون قيادة لهذه المرحلة العاصفة ، كيف لا وهم يحملون أمانة العلم والأمل بين أيديهم التي باتت تحمل حقيبة سفرها كوطن متنقل .
محاولات عديدة تمت لتاطير الجهود في بلاد الغربة لهذه الكفاءات والطاقات البشرية التخصصية ، بعضها في عمل مؤسسي ، وأخرى في مجال الإعلام ، وغير هؤلاء وهؤلاء في مشروعات فكرية وتربوية متعددة التوجهات ، ولكنها جميعا لا ترقى إلى حجم التوقعات والآمال التي تعقد على نخبة النخبة من العقول العربية المهجرة، كيف بنا ونحن نتحدث عن مئات الآلاف من الشباب والأكاديميين والمختصين والخبراء وأصحاب التجارب المؤسسية الناجحة والإبداعية ?!
برأيي نحن اليوم أمام واحدة من أوجب الأولويات الملحة ، فلا إصلاح للواقع ، ولا تغيير في ظروف وشروط البيئة العربية المترنحة تحت الحروب والضغوط والتتازلات والفساد والجهل والبطالة ، إلا من خلال تفعيل هؤلاء المبدعين ليفكروا ويخططوا ويبرمجوا العمل المؤسسي والفكري والنقابي والحزبي والثقافي والمعرفي في أوطانهم من خلال التقائهم وتفاعلهم مع الأحداث بصورة عقلانية موضوعية في بيئة آمنة في غربتهم ، فرصة تمكنهم من التفكير الحر من خارج الصندوق المغلق لتقديم الأفكار والحلول الابتكارية لمشكلات الواقع المتعددة ، كل بحسب خبرته وتخصصه ومجال تجربته وخبرته.
وحتى لا نكون مثاليين في الطرح ، فإن المصداقية تحتم علينا أن نتحدث بشفافية ووضوح فيما يتعلق بواقعهم المعيشي ، فقد رأيت وسمعت وتعرفت إلى أساتذة كبار ، وأكاديميين وعلماء وشعراء ومفكرين على مستوى أممي ، لا يجدون قوت يومهم ، ويعملون على مدار الساعة لتأمين مدارس أبنائهم ، وطعام بيوتهم ، وفي هذا الحال ، تتكالب المعاناة المركبة على هذا العقل الهارب بين مسؤوليته الوطنية ومسؤوليته البشرية والإنسانية والأسرية ، وهي معضلة لا بد من حلها قبل الحديث عن تقدم ونهضة وفكر نهضوي ريادي تغييري قادم، حتى لا يفتر العزم لدى نخب المجتمعات المسافرة ، وحتى لا تبرد الهمة لديهم ، وليقول لهم أهل الحل والعقد والمسؤولية أنكم منا وعقولكم لدينا مقدرة ، وأنكم لستم لوحدكم في غربتكم القسرية عن الوطن والأهل والماضي .