قواعد الانتقاء عند الأتراك في الانتخابات
د.نزار الحرباوي
مع اقتراب ساعة الحسم في الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية، وبدء الاستعدادات الانتخابية وإطلاق الحملات الانتخابية للتيارات السياسية المتنافسة، يرشح للذهن سؤال جوهري لمن يتابع هذه الانتخابات، وهو : ما هي معايير الاختيار عند المواطن التركي ؟
برصد التسلسل التاريخي للعمليات الانتخابية التركية على مدى العقود الماضية، يتبين للمتابع أن ثمة قواسم مشتركة في الذهن التركي يمكن وضعها قواعد عامة للانتقاء بين من يرشحه الكمّ الحزبي المتنافس في كل انتخابات ، وبرغم وجود فوارق بين كل انتخابات وأخرى بسبب ظروف المرحلة وطبيعة الحالة السياسية، وطبيعة السلطات الحاكمة ، والواقع الاقتصادي ونحوها ؛ إلا أن هناك ما يمكن التوافق عليه في ذهنية الناخب التركي من حيث الشكل والجوهر .
دعوني أبدأ بالجانب الشكلي أولاً لسهولة تناوله ، فهو قاسمٌ مشترك لدى الأتراك ينبع من طبيعة القومية التركية التي تجذرت لعقود في الشارع التركي ، وتتمثل بكون الشخصية المترشحة ذات كاريزما قوية واضحة ، يمكن لها شكلاً أن تبين سيادة وقوة البلاد وهيبتها داخلياً واقليمياً وعالمياً .
يستتبع ذلك بالضرورة وجود قوة الخطاب وحسن المظهر ولباقة الحضور، كما يتطلب البعد الشكلي وجود عامل الخطاب الوطني الناضج الذي يجعل الوطن مقدما على المصالح الحزبية ، ويقدم بذلك صورة إيجابية عن تركيا في قوتها ومكانتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتفوقها في المنطقة .
أما من حيث الجوهر، فهناك عوامل متعددة تلعب دوراً كبيراً في اختيار الناخب التركي، لعل أبرزها البعد الديني - حتى لو لم يظهر جلياًً في خطابات المترشح أو تصريحات الناخب وميوله - ولكنه الركيزة الأساسية الأولى التي تعتبر المحرك المؤثر في الشريحة الأوسع من الشعب التركي على اختلاف ميوله وتوجهاته .
بعد ذلك، يأتي البعد التاريخي والمعرفي للحزب والقيادة السياسية، وتقديم كل حزب لقيادات جماهيرية يلتف حولها الشعب أو شغلت مناصب أكاديمية أو مؤسساتية أو حكومية مرموقة، فهؤلاء يسهل على الشعب أن يميل لهم أو يميل عنهم ، فالقيادات الفاشلة تاريخياً لم يسجل لها التاريخ الانتخابي التركي أي حضور لافت عن نسبتها المعروفة حتى لو غيرت نهج الخطاب ووسائل الدعاية، والقيادات الناجحة المؤثرة تحظى بالاحترام والتقدير حتى لو لم تحظ بتصريح الجمهور بذلك.
الأمر الجوهري الثالث المؤثر وهو البعد الاقتصادي وما يتطلبه من وجود برنامج يضمن للمواطن التركي حقوقه ورفاهيته ومتطلبات الحياة العصرية التي يطلبها، فالحزب الذي يضرب على وتر الاقتصاد يحظى باهتمام واضح من شرائح المجتمع المختلفة، لا سيما الشرائح ضعيفة ومتوسطة المستوى التعليمي، فهي تبحث عن لقمة عيشها ومستقبل أبنائها بصورة ضاغطة ومؤثرة.
ولعل ما تشهده الحالة الاقتصادية من تقلبات قبيل كل انتخابات برلمانية أو بلدية أو رئاسية لهو الدليل الأبرز على هذا العامل ومستوى حيويته لدى الناخب التركي، ومن الواجب التنبه هنا إلى أن الإنسان التركي يريد أن يقتنع ببرنامج الحزب الاقتصادي كما يريد الاقتناع بمستويات الخطاب الاقتصادي القوي منه مثلاً بمثل .
العامل الذي يلي ذلك هو عنصر الشباب وقطاع المرأة كوحدة واحدة، ومن خلال المتابعات التي أجريتها مؤخراً بعد الاستفتاءين الأول والثاني فإن تقديم الشباب وتصدير المرأة بنفس المستوى واللعب على وتر الشرائح الأقل حظاً في المجتمع له دور واضح في التأثير على شرائح الشباب والمرأة ، وتفضيل أحد الأحزاب على غيره ، لا سيما في شريحة طلبة الجامعات والعاملين والطبقة الوسطى.
وبعد هذه العوامل، تأتي الألعاب الانتخابية المدروسة في ظل كل انتخابات من طرف هذا الحزب أو ذاك ، كترشيح لاعب كرة قدم مشهور، أو مغنٍ معروف ، أو شخصية حازت على بطولات عالمية لتركيا فنياً أو ثقافياً أو رياضياً أو نحوها لتعزز حظوظ هذا الحزب بالفوز على خصومه في الشرائح التي لا تحسم قرارها مسبقا في كل انتخابات .
ومع أن الدراسات والإعلام التركي يعطي ما نسبته ٨-١٠ ٪ من نسبة المقترعين كنسبة مترددة غير محسومة، إلا أن الوقائع الانتخابية الأخيرة أثبتت أن نسبة هذه الشريحة أعلى من ذلك ، بل قد تصل إلى ١٥-١٨٪ من نسبة المقترعين العامة وهي شريحة هامة ومؤثرة بالفعل يمكن لها أن تغير موازين القوى بكل وضوح.