لماذا لا تنسف تركيا مسار أستانا؟
تتصاعد انتهاكات النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين للاتفاقيات الموقعة مع تركيا بصفتها الدول الثلاث الضامنة لمسار أستانا، وتتصاعد مع ذلك أصوات المعارضة السورية وسكان الشمال السوري المُطالبة لأنقرة بنسف مسار أستانا طالما أن الاتفاق الأساسي المتعلق بـ"وقف التصعيد" لم يحقق الغاية الأساسية منه بوقف التصعيد والقتل والدمار.
هذه المطالب تبدو محقة جداً، فالنظام يواصل هجماته بدعم من المليشيات الإيرانية وبغطاء جوي روسي على مناطق مختلفة مصنفة "منطقة خفض تصعيد" في محافظة إدلب ومحيطها
التصعيد في "مناطق خفض التصعيد" وصل ذروته في الأيام الأخيرة بالتزامن مع فشل الجولة الثانية عشر من اجتماعات أستانا في التوصل لتفاهمات واضحة حول الوضع العسكري في الشمال السوري أو المسار السياسي المتمثل في الاتفاق على تشكيل لجنة إعادة صياغة الدستور، حيث تكثفت الغارات الجوية والهجمات الصاروخية وبالتالي هجمات المعارضة المضادة، كل ذلك عقب تصريح مفاجئ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلوح فيه مجدداً بالخيار العسكري الشامل في إدلب، والغضب الروسي من الحديث عن إمكانية التوصل لاتفاق بين واشنطن وأنقرة حول إقامة المنطقة الآمنة شرقي نهر الفرات بدون التنسيق مع موسكو.
كل ذلك من الطبيعي أن يدفع للغضب والمطالبة بإنهاء مسار أستانا عقب التساؤل عن قيمة الاتفاقيات طالما لم تتمكن من حماية المدنيين ووقف الهجمات. لكن وبعيداً عن ردود الفعل المتسرعة والغاضبة، تجري الحسابات السياسية لدى المعارضة السورية والقيادة التركية على مستوى أعقد وبواقعية أكبر تفرضها المعادلة العسكرية والسياسة الصعبة في الشمال السوري، ولا سيما موازين القوى على الأرض.
فعلى الرغم من تواصل الانتهاكات فإن الاتفاقيات التي توصلت لها تركيا مع روسيا في أستانا هي من تمنع حتى اليوم النظام وروسيا من شن هجوم عسكري واسع وشامل على إدلب وما تبقى من أرياف اللاذقية وحماة وحلب وهو ما يعني فعلياً سيطرة النظام السوري على كامل الأراضي السورية، وإنهاء فصائل المعارضة العسكرية عملياً على الأرض.
فالواقعية تقول إن الطرف الآخر هو الأقوى عسكرياً وبفارق هائل، فلا مجال للمقارنة بين القدرات الجوية والبرية التي تمتلكها روسيا وإيران والنظام بما تمتلكه فصائل المعارضة السورية في إدلب ومحيطها عقب تجفيف أغلب الدعم العسكري والمالي لها، وبالتالي فإن انهيار الاتفاقيات السياسية التي تضبط التحرك العسكري الواسع في تلك المنطقة يعني تحول المعادلة إلى موازين قوى عسكرية تميل بشكل كبير لصالح النظام وحلفاؤه.
ما يجري فعلياً هو معركة عض أصابيع بين روسيا وتركيا، فروسيا حاولت على الدوام إنهاء القدرة العسكرية للمعارضة السورية بشكل تام قبيل الدخول في المسار السياسي لكي تفاوض المعارضة بدون أي أوراق قوة، بينما عملت تركيا ولا زالت من أجل تحقيق اختراق حقيقي في المسار السياسي قبيل الحديث عن المصير النهائي لإدلب وسلاح المعارضة السورية.
فطوال الأشهر الماضية ضغطت موسكو بكافة الطرق السياسية والعسكرية على أنقرة لإدخالها في مواجهة عسكرية مباشرة مع هيئة تحرير الشام
ولتأجيل حسم مصير إدلب، ماطلت تركيا مرارا مع روسيا، وانتقلت من اتفاق مناطق خفض التصعيد إلى اتفاق المنطقة منزوعة السلاح ولاحقاً لتسيير الدوريات، وغيرها من التوافقات المرحلية لهدف أساسي يتمثل في تحقيق تقدم بالمسار السياسي قبل فقدان المعارضة السورية أبرز أوراق القوة المتبقية في يديها.
في هذا السياق، وبعد أن فشلت روسيا في استفزاز المعارضة لنسف التفاهمات القائمة، اتجهت في الأيام الأخيرة للتحرش بتركيا عسكرياً لدفعها للتراجع من تصدر المشهد في إدلب ومحيطها، فكثف الهجمات الجوية بالقرب من نقاط المراقبة التركية، وحركت النظام لمهاجمة نقطة مراقبة تركية، وأوعزت إلى الوحدات الكردية لتكثيف هجماتها على الجيش التركي انطلاقاً من تل رفعت.
لكن الرد التركي كان مفاجئاً لروسيا على ما يبدو، حيث نفذ الجيش التركي عملية عسكرية خاطفة في تل رفعت وضرب الوحدات الكردية هناك، كما لم تقم أنقرة بأي جهد للحد من رد المعارضة السورية على الانتهاكات المتصاعدة، ونفذت المعارضة هجمات قوية على نقاط النظام والمليشيات الإيرانية والقواعد الروسية، ما يعني أن التفاهمات التركية الروسية لا تمنع المعارضة على الإطلاق من الدفاع عن مواقعها أو الرد على الهجمات.
وبناء على كافة المعطيات السابقة، وغيرها الكثير، لا يبدو من الصواب على الإطلاق ولا من مصلحة المعارضة السورية وأهالي إدلب أن تقوم تركيا بالانسحاب من الاتفاقيات الموقعة مع روسيا حول إدلب وهو ما يعني فعلياً نسف مسار أستانا، لأن ذلك سيكون إلى حد كبير بمثابة هدية لروسيا التي لن تتردد في توفير الدعم الكامل للنظام لشن هجوم عسكري واسع سيتمكن في نهايته من السيطرة على ما تبقى من أراضي محررة بيد المعارضة، مستفيداً من حجة "محاربة الإرهاب"، وانعدام المواقف الدولية القادرة على لجم النظام وداعميه.