
البناء في تركيا يحقق مبيعات قياسية بـ8 مرات
في تركيا شهد قطاع البناء نموًا مذهلًا خلال السنوات الخمس بين عامي 2020 و2024، حيث تجاوز إجمالي المبيعات 4.1 تريليون ليرة تركية، وهو رقم تاريخي يعكس تحوّلاً كبيرًا في الاقتصاد العقاري والبنّائي وعمل الشركات في هذا المجال، ومعه تغيّرات في نمط الاستثمار، والطلب، والأسواق المحلية والدولية، والتحديات التي ترافق هذا النمو من ارتفاع التكاليف المالية واللوجستية إلى القدرة الشرائية للمواطن.
المعلومات التي أصدرتها دراسات موثوقة، بما في ذلك تقرير «توازنات القطاعات لعام 2024» الذي أعدّته مؤسسة الإحصاء التركية بالتعاون مع البنك المركزي، تُظهر أن عدد الشركات العاملة في قطاع البناء بلغ حوالي 156,982 شركة، ويشغّل هذا القطاع نحو 1,583,075 شخصًا، ما يجعله أحد الركائز الأساسية للاقتصاد الوطني، خصوصًا فيما يتعلق بخلق فرص العمل واستغلال الموارد المحلية. المصدر نفسه يوضح أن مبيعات هذه الشركات الصافية، أو مبيعاتها الإجمالية قبل خصم التكاليف، ارتفعت من حوالي 511 مليار ليرة في العام 2020 إلى أكثر من 4.1 تريليون ليرة في العام الأخير من الفترة المدروسة، أي أن المبيعات تضاعفت تقريبًا ثمانية أضعاف خلال هذه السنوات الخمس.

الارتفاع لم يكن موحدًا في الداخل فحسب، بل ترافَق مع زيادة ملحوظة في المبيعات الخارجية للبناء، حيث كانت المبيعات المحلية للشركات تشكل الجزء الأكبر تقريبًا من الرقم الإجمالي، بينما المبيعات خارج حدود تركيا قفزت من حوالي 35,8 مليار ليرة إلى نحو 181,7 مليار ليرة في نهاية الفترة، مما يدل على توسّع طموح للشركات نحو الأسواق الخارجية والتصدير سواء لمشاريع البناء أو للمكونات والمستلزمات.
عند تحليل السنين الفردية، يُرى أن العام 2021 شهد ارتفاعًا كبيرًا مقارنة بالعام 2020، بينما التغير الأبرز حدث بين 2022 و2023 حيث قفزت المبيعات من ما يقارب تريليون ليرة إلى أكثر من 2.2 تريليون ليرة. هذا النمو المتسارع يُعزى إلى عدة عوامل متداخلة من بينها تزايد الطلب على الإسكان، وأثر التضخم على تكلفة البناء، وارتفاع أسعار الأراضي، إضافة إلى أن بعض المشاريع التي تأخرت أو توقفت خلال السنوات الأولى من جائحة كورونا قد استُأنفت بقوة بعد التخفيف من القيود والاعتماد المتزايد على التمويل المحلي والدولي.
لكن رغم هذا النمو الهائل في الأرقام الاسمية، هناك من يدقّق في القوة الشرائية الحقيقية للمواطنين، فالزيادة في الأسعار وارتفاع تكلفة المواد المستوردة والطاقة والوقود والنقل يُضعف الفارق الذي تشكّله الأرقام الكبيرة. المواطنين الذين يسعون لشراء منزل وجدوا أن سعر المتر المربع ارتفع بشكل يفوق بكثير الزيادة في الدخل، وفي بعض المدن الكبرى ارتفعت تكاليف الشراء والتشييد أكثر من معدل التضخم السنوي، ما يجعل الفارق في القدرة الشرائية كبيرًا جدًا. بعض التحليلات الاقتصادية ترجّح أن هذا النمو الضخم في مبيعات البناء يُغطي إلى حد كبير تأثيرات التضخم وتآكل قيمة الليرة، مما يعني أن الأرقام الاسمية الكبيرة تُخفي واقعًا معقّدًا بالنسبة لشريحة واسعة من المشترين.
من جهة أخرى، نشاط قطاع البناء توسّع كثيرًا في المشاريع المتعلقة بالعقارات السكنية والتجارية، لكن أيضًا في المرافق العامة، والبنى التحتية، والمشاريع الحكومية مثل الجسور والطرق والمرافق الخدمية، وهذا أدى إلى أن الطلب لم يكن محصورًا فقط بالقطاع الخاص بل إن الدولة كانت مساهمًا رئيسيًّا في تشجيع البناء من خلال برامج دعم، تسهيلات التمويل، إجراءات التراخيص، وتخفيف بعض البيروقراطية. كما أن ارتفاع أسعار الأراضي خاصة في المناطق الحضرية الكبرى والمناطق ذات الطلب العقاري المرتفع ساهم في رفع المبيعات من حيث القيمة.
القطاع العقاري المرتبط بالبناء شهد أيضًا نموًا ملفتًا، حيث أن مبيعات شركات النشاط العقاري المرتبطة بالبناء ارتفعت من حوالي 38,8 مليار ليرة في 2020 إلى نحو 361,4 مليار ليرة عام 2024، ما يظهر أن تطوير الأراضي، بيع الوحدات السكنية والتجارية الجاهزة جزء لا يتجزأ من النمو الإجمالي. المبيعات المحلية في العقارات ارتفعت بشكل كبير بينما المبيعات الخارجية بدأت تصبح أكثر وضوحًا رغم أنها لم تصل بعد إلى نفس حجم الداخل، لكن الإشارة إلى أن هذه الشركات بدأت تستهدف أسواقًا أجنبية يُعد مؤشرًا على أن لديها طموحًا للتصدير أو التعاون الدولي.
أما من ناحية التوظيف، فإن هذا النمو في المبيعات ترافق مع زيادة في عدد العاملين في القطاع، خصوصًا في الشركات الكبيرة والمتوسطة، وكذلك توظيف عمال البناء، μηχανικοί، حرفيين ومقدمي خدمات مترابطة بالبناء مثل النقل والنجارة والسباكه والكهرباء والتشطيبات. هذا التوسع في التوظيف يُعتبر من أهم انعكاسات النمو على الشارع المحلي، لأنه يعني فرص عمل جديدة، وإيرادات أكبر لأعداد من الأسر، وزيادة النشاط في الأسواق الحاضنة مثل أسواق مواد البناء، الدهانات، البلاط، إلخ.

مع ذلك، تواجه شركات البناء تحديات كبيرة، من ضمنها ارتفاع تكلفة المواد المستوردة خصوصًا الحديد، الأسمنت، الزجاج، إلى جانب تأثرها بسعر الصرف الذي يجعل تكلفة الاستيراد غير مستقرة، ما يُسبب تذبذبًا في جدول التكاليف للمشاريع. إضافة لذلك تزايد تكلفة العمالة والنقل والطاقة يلقي بظلال على هوامش الربح، ففي بعض الحالات يرى المطورون أن ارتفاع الأرباح الاسمية لا يعكس الربح الحقيقي بعد خصم التكاليف التشغيلية المتزايدة. كذلك التراخيص والبيروقراطية في بعض الولايات تعتبر عائقًا زمانًا وماليًا، حيث الانتظار الطويل للحصول على الموافقات يزيد من التكاليف غير المنتجة ويؤخر الجدول الزمني للمشاريع. ومن جهة أخرى، الطلب القوي في المدن الكبرى يُثقل الضغط على البنية التحتية المحلية، مثل الطرق والمرافق العامة والمياه والصرف، لأن النمو البنائي يؤدي إلى تمدد العمران وبناء أكبر من قدرة الخدمات في بعض المناطق، مما يطرح تساؤلات حول التخطيط الحضري والاستدامة.
من أبرز التوقعات أن السنوات القادمة ستشهد محاولة من الدولة لتنظيم الأسعار وفرض رقابة أكبر على تكلفة البناء ومواد الإسمنت والحديد، وسعر الأراضي، وربما تقديم حوافز للمشترين أو تخفيضات جزئية في الرسوم والتراخيص لتخفيف العبء، خاصة للمشترين ذوي الدخل المتوسط أو الأقل. قد تُعرض برامج تمويل ميسّرة من البنوك أو تسهيلات قرضية مع دفعات أولى أقل أو مدد سداد أطول، أو دعم من بنك الإسكان أو مؤسسات التمويل الحكومية أو شبه الحكومية. كما أن المصانع المحلية لمواد البناء ستحاول تعظيم الإنتاج لتقليل الاعتماد على الاستيراد، وربما ظهور بدائل محلية أو استيراد من الدول التي توفر تكلفة أقل.
هذا النمو الضخم في مبيعات البناء إذا استُمرّ بطريقة تعكس الفروض الاقتصادية الصحيحة، يمكن أن يُشكّل قاعدة قوية لاقتصاد البلاد، يعزّز من الاستثمارات، يقلّل الفوارق بين المُدن الكبرى والمناطق الريفية، ويوفر سكنًا بأسعار أكثر استقرارًا إذا ما توفرت السياسات الملائمة. ولكن إذا استمرت المبيعات الاسمية في الارتفاع في ظل ضعف القدرة الشرائية، فقد يُواجه القطاع تباطؤًا حادًا في الطلب، خاصة إذا ارتفعت الفوائد على القروض العقارية أو إذا زادت التكاليف التشغيلية بصورة أسرع من القدرة على الاستثمار.
