تركيا ترفع الإنفاق البحثي إلى 16 مليار دولار سنويًا

تركيا ترفع الإنفاق البحثي إلى 16 مليار دولار سنويًا
تركيا ترفع الإنفاق البحثي إلى 16 مليار دولار سنويًا

تركيا ترفع الإنفاق البحثي إلى 16 مليار دولار سنويًا

شهد تركيا في السنوات الأخيرة طفرة غير مسبوقة في مجال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، حيث أعلن وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي، محمد فاتح كاجير، عن وصول حجم الاستثمارات المخصصة لهذا المجال إلى ما يقارب 16 مليار دولار سنويًا. هذا الإعلان لم يأتِ من فراغ، بل جاء تتويجًا لمسار طويل من الجهود التي بذلتها الدولة لتوسيع قاعدة الابتكار وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد التركي في مواجهة التحديات العالمية، ولتأكيد مكانتها كدولة صاعدة في مجالات التكنولوجيا والصناعة والإبداع العلمي.

منذ عقود طويلة كان الاقتصاد التركي يعتمد بشكل أساسي على القطاعات التقليدية مثل الزراعة والصناعات الخفيفة والسياحة، إلا أن التغيرات التي يشهدها العالم، وخصوصًا بعد الثورة الرقمية والتحولات التي فرضتها العولمة، دفعت تركيا إلى إعادة النظر في استراتيجيتها التنموية. فقد أدركت أن الاعتماد على الصناعات التقليدية وحدها لن يكون كافيًا لتحقيق النمو المستدام ولا ضمان التنافسية أمام الاقتصادات الكبرى. ومن هنا جاء التركيز المتزايد على البحث والتطوير باعتباره المحرك الأساسي للابتكار والتغيير. ولعل ما يميز التجربة التركية في هذا المجال أنها لم تقتصر على رفع الإنفاق المالي فقط، بل ارتكزت على وضع سياسات طويلة المدى تهدف إلى ربط الجامعات بالصناعة، وتشجيع الشركات الناشئة، وتوسيع البنية التحتية للتكنولوجيا عبر إنشاء حدائق تكنولوجية ومراكز ابتكار جديدة.

تصريحات الوزير كاجير أوضحت أن تركيا رفعت حصة البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي من مستوى متواضع لم يتجاوز 0.5% قبل عقدين من الزمن إلى ما يقارب 1.5% اليوم، وهو ارتفاع ملحوظ يعكس مدى الأهمية التي توليها الحكومة لهذا القطاع. فحجم الإنفاق الذي وصل إلى 16 مليار دولار لم يكن مجرد رقم يُسجل في التقارير، بل يعكس جهودًا مضاعفة في توظيف آلاف الباحثين والعلماء والمهندسين، وإطلاق مئات المشاريع التي تستهدف تطوير الصناعات الدفاعية والطبية والرقمية. ويُلاحظ أن هذه الخطوة تأتي في وقت يشهد فيه العالم سباقًا محمومًا نحو امتلاك التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، تكنولوجيا الفضاء، وأنظمة الاتصالات الحديثة، وهي مجالات تسعى تركيا جاهدةً أن تضع لها بصمة واضحة فيها.

الخلفية التاريخية لهذه القفزة تكشف الكثير عن التحولات التي جرت في الداخل التركي. فخلال العقدين الماضيين، تبنت الدولة برامج إصلاح واسعة في التعليم العالي، شملت إنشاء جامعات جديدة في معظم الولايات التركية، وتوسيع برامج البعثات الدراسية إلى الخارج، وربط البحث الأكاديمي باحتياجات الاقتصاد المحلي. هذا الربط ساعد في تعزيز الكفاءات البشرية وتخريج جيل جديد من الباحثين المتخصصين في التكنولوجيا الحديثة. إضافة إلى ذلك، فإن إنشاء ما يعرف بـ "التكنوبارك" أو الحدائق التكنولوجية كان بمثابة نقطة تحول، إذ أصبحت هذه المراكز بيئة جاذبة للشركات الناشئة والمبتكرين، حيث توفر لهم حاضنات أعمال، وخدمات استشارية، ودعمًا ماليًا وتقنيًا يمكنهم من تحويل أفكارهم إلى منتجات قابلة للتسويق.

الأثر الاقتصادي لهذه الاستثمارات يظهر بوضوح في عدة قطاعات. ففي مجال الصناعات الدفاعية، تمكنت تركيا من تقليص اعتمادها على الاستيراد بشكل كبير، حيث أصبحت تنتج جزءًا كبيرًا من احتياجاتها العسكرية محليًا، بل وتصدر منتجاتها إلى عشرات الدول. هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا الاستثمار الكثيف في البحث والتطوير الذي أدى إلى ابتكار طائرات مسيرة وأنظمة رادار متطورة. وفي قطاع الطاقة، تُجرى أبحاث موسعة لتطوير تكنولوجيا تخزين الطاقة من مصادر متجددة كالطاقة الشمسية والرياح، بما يساهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. أما في مجال الصحة والتكنولوجيا الحيوية، فقد استفادت تركيا من تجربة جائحة كورونا لتسريع الأبحاث في إنتاج اللقاحات والأدوية المحلية، وهو ما عزز استقلالها الصحي.

من الناحية الاجتماعية، فإن تعزيز ثقافة البحث والتطوير انعكس إيجابًا على جيل الشباب، حيث باتت ريادة الأعمال والابتكار خيارات واقعية للكثير من الخريجين. فقد نشأت خلال السنوات الأخيرة آلاف الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا المالية، التجارة الإلكترونية، الذكاء الاصطناعي، والألعاب الإلكترونية، بعضها وصل إلى تقييمات بمليارات الدولارات وأصبح يُعرف بما يسمى "اليونيكورن التركي". هذا التحول ساهم في خلق فرص عمل جديدة، وتوفير بيئة تنافسية تحفز العقول الشابة على الإبداع بدلًا من البحث عن وظائف تقليدية.

على الصعيد الدولي، تسعى تركيا من خلال هذه القفزة إلى ترسيخ مكانتها كشريك تكنولوجي موثوق، حيث انضمت إلى العديد من المشاريع البحثية العالمية، وعززت تعاونها مع دول الاتحاد الأوروبي وآسيا في مجالات الابتكار. كما تعمل على بناء جسور تعاون مع شركات التكنولوجيا العملاقة، سواء من خلال جذب الاستثمارات المباشرة أو عبر مشاريع مشتركة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والأمن السيبراني. هذه الخطوات تسهم في إدماج تركيا بشكل أوسع في الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة.

تصريحات الوزير كاجير لم تقتصر على إبراز الأرقام فقط، بل ركزت على الرؤية المستقبلية التي تقوم على جعل تركيا ضمن أكبر 10 دول في العالم في مجال البحث والتطوير خلال العقدين المقبلين. هذه الرؤية تعتمد على زيادة الحصة المخصصة لهذا المجال من الناتج المحلي إلى مستويات تقارب 2.5% أو 3%، وهو المعدل الذي تسجله الدول المتقدمة صناعيًا مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية. لتحقيق هذا الهدف، يجري العمل على إطلاق برامج تحفيزية جديدة تشمل منحًا للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع التعاون بين القطاعين العام والخاص، وتوفير تمويل طويل الأجل للمشاريع ذات الطابع الاستراتيجي.

ورغم كل هذه الإنجازات، لا تزال هناك تحديات قائمة. فالكثير من الخبراء يرون أن رفع الإنفاق وحده لا يكفي، بل يجب أن يترافق مع إصلاحات هيكلية في التعليم الأساسي لتقوية مهارات الطلاب في العلوم والرياضيات، وتعزيز بيئة حرية البحث العلمي، وضمان استقلالية الجامعات. كذلك هناك حاجة إلى حماية الملكية الفكرية بشكل أكبر حتى يتمكن المبتكرون من جني ثمار أفكارهم، وإلى تطوير بيئة تشريعية مرنة تشجع الاستثمار في التكنولوجيا الناشئة. الحكومة التركية تدرك هذه التحديات، ولذلك تعمل على مراجعة السياسات بشكل مستمر وتحديث القوانين بما يتناسب مع المتغيرات.

إذا نظرنا إلى تجربة الدول الأخرى، نجد أن الدول التي نجحت في التحول إلى مراكز تكنولوجية عالمية مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة لم تحقق ذلك إلا عبر استثمارات ضخمة ومستدامة في البحث والتطوير. وتركيا اليوم تحاول السير على هذا النهج، مع مراعاة خصوصيتها الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية. فهي تتمتع بموقع استراتيجي بين آسيا وأوروبا، وسوق محلية ضخمة تضم أكثر من 85 مليون نسمة، ما يجعلها قادرة على استيعاب الابتكارات وتطبيقها على نطاق واسع.

إن وصول حجم الإنفاق إلى 16 مليار دولار هو بداية مرحلة جديدة في مسيرة تركيا نحو اقتصاد قائم على المعرفة. فالاستثمارات في البحث العلمي ليست مجرد تكلفة، بل هي استثمار طويل الأمد يعود بالنفع على المجتمع بأكمله، سواء من خلال خلق فرص عمل جديدة، أو تطوير منتجات محلية قادرة على المنافسة عالميًا، أو حتى من خلال تحسين جودة الحياة عبر التكنولوجيا الحديثة. وإذا استمرت تركيا في هذا المسار بوتيرة متصاعدة، فمن المتوقع أن نشهد خلال العقد القادم تحولات جذرية تجعلها لاعبًا رئيسيًا في الاقتصاد العالمي التكنولوجي.

بهذا يمكن القول إن الإعلان الذي أدلى به وزير الصناعة والتكنولوجيا لا يمثل مجرد خبر اقتصادي، بل هو رسالة واضحة تعكس الطموح التركي في بناء مستقبل يعتمد على العلم والمعرفة. وهو أيضًا دعوة للشباب والقطاع الخاص للمشاركة الفاعلة في هذه المسيرة، بما يضمن أن تصبح تركيا دولة رائدة ليس فقط في منطقتها، بل على مستوى العالم.

مشاركة على: