فحص 50 ألف مكلف في تركيا وغرامات بالمليارات
تركيا تشن حملة ضريبية واسعة: فحص 50 ألف مُكَلّف وغرامات مقترحة تصل إلى 220 مليار ليرة
أنقرة، نوفمبر 2025 – أعلنت وزارة الخزانة والمالية التركية أنها أتمت خلال أول 10 أشهر من العام الجاري فحصًا ضريبيًا لـ حوالي 50 ألف مُكَلّف (أفراد وشركات)، ضمن ما وصفته بـ "تعزيز الرقابة الضريبية ومكافحة الاقتصاد غير الرسمي". البيانات الرسمية تشير إلى أن مقترحات الضرائب والغرامات نتيجة هذه الفحوصات تجاوزت 220 مليار ليرة تركية.
دوافع الحملة الضريبية
في خطاب عُرض عبر بيانات الوزارة، تبيّن أن هذه الحملة تأتي في سياق استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز كفاءة التحصيل الضريبي وضمان العدالة الضريبية. وفق ما نقلته وكالة الأنباء التركية (أن أ أ)، الوزارة تراهن على دعم التكنولوجيا الحديثة في الفحص الضريبي؛ فقد تم اعتماد أنظمة تحليل بيانات متعددة المصادر مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتحديد "المناطق عالية المخاطر".
كما عززت الحكومة رادعها التشريعي، بفرض زيادات في الغرامات على النشاطات غير المُصرّح بها، وزيادة العقوبات على المخالفات الضريبية. في القطاع الحيوي مثل الوقود، تم إدخال ما يعرف بـ "نظام التعرف الوطني للمركبات" (Ulusal Taşıt Tan)
تفاصيل الفحص الضريبي
من بين مكلفي الضرائب المراجعين، شمل الفحص شركات بمختلف أحجامها (كبيرة، متوسطة، صغيرة) بالإضافة إلى أفراد مُبلّغين.
خلال عمليات الفحص تم استدعاء 83 ألف مكلف لتوضيحات (izaha davet) عبر النظام الإلكتروني الجديد للوزارة، وقد نتج عن ذلك تحصيل ضريبي بقيمة حوالي 6 مليارات ليرة كضرائب مُستحقة بالفعل.
الوزارة أشارت إلى أن الفحص لم يكن محصورًا في المكاتب فقط، بل شمل عمليات تفتيش ميدانية واسعة: حتى الآن تم تنفيذ أكثر من 1.1 مليون عملية تفتيش ميداني في ما يتعلق بتنظيم الوثائق الضريبية ومراقبة نسبة ضريبة القيمة المضافة (KDV).
نظام e-İnceleme (الفحص الرقمي)
خلفية اقتصادية واجتماعية
تركيا، مثل العديد من الاقتصادات الناشئة، تعاني من تحديات كبيرة تتعلق بـ "الاقتصاد غير الرسمي" أو ما يُعرف بـ "الأنشطة المسجّلة جزئيًا أو غير مسدّدة للضرائب". هذا النوع من النشاط يضع عبئًا إضافيًا على الدولة، ويقلل من قدرة الحكومة على تعبئة الموارد الضرورية للإنفاق العام. عبر هذه الحملة، تسعى الحكومة إلى التضييق على الفراغات في النظام الضريبي وتحفيز التزام أكبر من المكلفين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن دمج التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي في عملية التدقيق يُعد جزءًا من نهج أوسع لتعزيز الكفاءة الضريبية وتقليل التكاليف التشغيلية للرقابة. هذا التوجه يعكس رغبة الدولة في الاعتماد على الفحص الذكي بدلاً من الاعتماد الكلي على التدخل البشري، ما قد يُحسّن من جودة التحصيل ويقلل من حالات التهرب.
من جهة أخرى، هناك إشارة ضمن بيانات الوزارة إلى محاولة تحقيق توازن بين التشدد الضريبي وتحفيز الاستثمار، خاصة للشركات الصغيرة والمتوسطة التي قد تتأثر سلبًا من زيادة الرقابة: الفكرة ليست فقط فرض الضرائب، بل تعزيز التزام قانوني دون خنق المبادرة الاقتصادية.
نتائج إضافية من المراجعة الضريبية
وفق مصادر متعددة، لم تقتصر نتائج الفحص على المقترحات الضريبية والغرامات، بل حملت عدة ملاحظات تنظيمية:
زيادة المكلفين الجدد: خلال العام الجاري، تم رصد ما يقارب 473 ألف مكلف قدموا إقرارًا ضريبيًا للمرة الأولى.
ارتفاع في إيرادات الضرائب المبلغة: بيانات الوزارة تشير إلى أن المكلفين الذين قدّموا إقراراتهم زادوا في بعض الفئات الضريبية (دخل إيجارات، دخل من الأجور، دخل من رأس المال)، مما يعني أن بعض من الاقتصاد غير الرسمي قد يتحول تدريجيًا إلى دائرة الضريبة.
مكاسب في التنظيم الميداني: تفتيش الوثائق وتنظيمها كان أحد أولويات الوزارة، خاصة فيما يتعلق بمطالب ضريبة القيمة المضافة (KDV) وتنظيم السجلات المالية للمكلفين.
زيادة الرقابة على كبار المكلفين: من خلال ما أُطلِق عليه "برنامج مراقبة الفئة العالية من الدخل" (High-Income Compliance Program) ، تم التركيز على الشركاء في الشركات الكبيرة الذين لم يعلنوا دخلهم سابقا، وتم رفع ضغوط الفحص عليهم، مما أدى إلى زيادات كبيرة في المراتب الضريبية لبعضهم.
الأثر الاقتصادي والسياسي
من منظور الإيرادات العامة: إذا تحققت مقترحات 220 مليار ليرة بشكل كبير، فإن ذلك سيُشكل دفعة كبيرة لخزينة الدولة، مما يوفر موارد إضافية لتمويل برامج البنية التحتية، الصحة، التعليم، والخدمات الاجتماعية.
من منظور استراتيجية مكافحة التهرب: هذه الحملة ترسل رسالة قوية إلى المكلفين بأن الحكومة جادة في مكافحة التهرب الضريبي، وأنها تعتمد أدوات حديثة وتقنيات متطورة لتحديد المخاطر. هذا قد يُردع بعض المكلفين عن الممارسات غير القانونية أو التهرب الضريبي.
من جهة الشركات الصغيرة والمتوسطة: قد يواجه بعض هذه الشركات صعوبات في تحمل الأعباء الإدارية والفنية المرتبطة بالمراجعات الضريبية المكثفة، خصوصًا إذا لم يكن لديهم بنية داخلية قوية للحسابات أو خبرة في العمل مع أنظمة الفحص الرقمي.
من الناحية السياسية: يعكس التوجه الحالي رغبة الحكومة في تعزيز شفافية النظام الضريبي وتحسين ثقافة الامتثال المالي، وهو ما يمكن أن يُستخدم كأداة لتعزيز الثقة بين المواطنين والدولة، خاصة إذا ما تم تحقيق توازن بين إنفاذ القانون ودعم النمو.
التحديات والمخاطر
رغم أن الحملة تبدو قوية، إلا أنها ليست خالية من المخاطر:
الاستئنافات القانونية: ليست كل المقترحات الضريبية أو الغرامات ستُقبل تلقائيًا من المكلفين؛ بعضهم قد يلجأ إلى الطعن القانوني، ما قد يطيل أمد الإجراءات أو يقلّل من المبالغ المحصّلة فعليًا.
الضغط الإداري: العمليات الضريبية قد تفرض عبئًا إضافيًا على المكلفين، خاصة من جانب الإعداد للتدقيق، إعداد الوثائق، والتعامل مع نظام الفحص الرقمي.
التوازن بين النمو والرقابة: في حال تشدد الرقابة دون مراعاة لبيئة الأعمال، قد تتراجع بعض الشركات الصغيرة أو المتخصصة في قطاعات حساسة، ما قد يؤثر على الاستثمار المحلي أو التوظيف.
تعتمد بعض الفحوصات على التكنولوجيا: بينما يوفر استخدام الذكاء الاصطناعي مزايا كبيرة، فإن الاعتماد الزائد قد يطرح تساؤلات حول دقة التصنيفات، خصوصًا إذا لم يكن النظام مدعومًا ببيانات كافية أو إذا واجه مشاكل تقنية.
ردود الفعل من الجهات المعنية
الخبراء الضريبيون والاقتصاديون: عبّر كثير من المحللين عن ترحيبهم بهذه الحملة، مؤكدين أنها خطوة ضرورية نحو نظام ضريبي أكثر عدلاً وكفاءة. بعضهم وصفها بأنها "تحول استراتيجي" في طريقة تعامل الدولة مع المكلفين، من مجرد جمع الضرائب إلى مكافحة التهرب وتعزيز الشفافية.
رجال الأعمال والشركات الصغيرة: هناك قلق بين بعضهم من أن الضغوط المتزايدة قد تزيد من تكاليف الامتثال. بعضهم يطالب بأن تكون الحملة أكثر توازنًا، مع تقديم تسهيلات أو برامج دعم للمكلفين الذين يواجهون صعوبة في تلبية متطلبات الفحص.
المواطنون العاديون: قد ينظر البعض إلى الحملة على أنها إيجابية لأنها تضمن أن الجميع يدفع نصيبه العادل، وهو ما يدعم الخدمات العامة. لكن هناك أيضًا قلق إذا ما تحولت الفحوصات إلى مصدر ضغط لا مبرّر له على الأفراد.
خطوات الوزارة المستقبلية
ورد في تصريحات رسمية أن وزارة الخزانة والمالية ستواصل توسيع نطاق الفحص الضريبي والتفتيش، مع التركيز على:
تعزيز أنظمة الفحص الرقمي: توسيع استخدام منصة e-İnceleme لتشمل مزيدًا من البيانات وتحسين خوارزميات تقييم
تطوير قدرات التحليل: زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي وتقنيات تحليل البيانات لتحديد مكلفين بمخاطر عالية والتدخل الفوري.
توسيع التفتيش الميداني: مع استمرار عمليات تفتيش الوثائق وتنظيمها، ستستهدف المفوضية أيضًا أماكن الأنشطة غير الرسمية التي قد تهرب من الضرائب التقليدية.
إرشاد ودعم المكلفين: توفير دورات توعوية وتدريبية خاصة للشركات الصغيرة والمتوسطة لتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم، وضمان أن يكون لديهم الأدوات للإعداد للفحص الضريبي دون التأثر سلبًا.
التعاون الدولي: قد تسعى الوزارة إلى الربط مع مؤسسات دولية لتبني أفضل الممارسات في استخدام التكنولوجيا الضريبية وتحليل المخاطر، خصوصًا في ظل الاقتصاد العالمي المتغير.
تقييم شامل للحملة
من النظرة الشاملة، تعتبر هذه الحملة الضريبية من أكثر الحملات طموحًا من نوعها في تركيا خلال السنوات الأخيرة. فهي لا تقتصر على مجرد جمع إيرادات فورية، بل تتجه نحو بناء نظام ضريبي أكثر نضجًا، يعتمد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ويهدف إلى إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمكلفين.
إذا نجحت الحملة في تحويل جزء كبير من المقترحات الضريبية إلى تحصيل فعلي، فإن ذلك قد يُحدث نقلة نوعية في المالية العامة التركية، خاصة إذا ما تم استثمار هذه الموارد في مشروعات تنموية. في المقابل، إذا فشلت في تحقيق التوازن بين الإنفاذ الضريبي ودعم النمو، قد يواجه الاقتصاد المحلي توترات إضافية، خصوصًا في قطاع الشركات الصغيرة.