ظهور روايات موسعة حول غزوة خيبر ودورها في بناء الدولة
تعود غزوة خيبر إلى الواجهة من جديد مع صدور دراسات تاريخية حديثة تُعيد قراءة هذه المحطة المفصلية في السيرة النبوية، والتي تُعد واحدة من أهم الأحداث التي شكلت بنية القوة السياسية والعسكرية للدولة الإسلامية في المدينة المنورة. وقد وقعت الغزوة في السنة السابعة للهجرة، في وقت كانت فيه خيبر تُعتبر من أغنى مناطق شمال الجزيرة العربية، وتضم عددًا من الحصون شديدة التحصين، بالإضافة إلى نفوذ اقتصادي كبير جعل منها أحد أهم مراكز التأثير في الإقليم.
كانت خيبر تمثل تهديدًا مباشرًا للمسلمين بسبب احتضانها لعدد من المحرضين والأعداء الذين شاركوا في التحريض خلال معركة الأحزاب، وكذلك بسبب قوتها الاقتصادية التي كانت تُستخدم في دعم تحالفات معادية للمدينة المنورة. ومن هنا جاء القرار النبوي بالتوجه نحو خيبر بهدف إنهاء هذا التهديد وترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة.
تحرك الجيش الإسلامي بقيادة الرسول ﷺ نحو خيبر في خطوة مباغتة أربكت دفاعات اليهود الذين كانوا يعتمدون بشكل كبير على التحصينات الطبيعية والمهارات القتالية داخل الحصون. ومع بداية المواجهات، برزت بسالة المسلمين وانضباطهم، إلى جانب التخطيط المحكم الذي اتبعته القيادة النبوية في التعامل مع كل حصن على حدة، مما ساهم في تقليل الخسائر وتحقيق تقدم تدريجي.
وتشير المصادر التاريخية إلى الدور البارز لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي سلّمه النبي ﷺ الراية في لحظة حاسمة من المعركة، بعد أن عانى المسلمون من صعوبة في فتح حصن القَمُوص، أحد أقوى حصون خيبر. وقد جاء دور علي رضي الله عنه ليقلب موازين المواجهة، حيث نجح في اختراق الحصن وإسقاط دفاعاته، وهو حدث يُعد من أشهر المواقف البطولية في الغزوات الإسلامية.
استمرت المعارك عدة أيام شهدت خلالها حصون خيبر سقوطًا واحدًا تلو الآخر، مما دفع اليهود إلى طلب الصلح. وقد قبل الرسول ﷺ الصلح وفق شروط عادلة تضمن عدم الإضرار بمن لا يشارك في القتال، وتم تنظيم إدارة الأراضي وفق نظام المزارعة، حيث استمر اليهود في العمل في مزارعهم مقابل نصف المحصول، وهو ترتيب اقتصادي حقق استقرارًا مهمًّا للدولة الإسلامية.
ووفق دراسات حديثة، فقد أحدثت غزوة خيبر تحولًا اقتصاديًا كبيرًا، إذ وفرت للدولة الإسلامية موارد مالية وزراعية ضخمة، وساعدت في تحقيق الاكتفاء في عدد من المجالات. كما أن نظام العقود والإدارة بعد الغزوة يعكس نهجًا متقدمًا في تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ويُعد نموذجًا مبكرًا لهيكلة الموارد بكفاءة وعدالة.
ويرى الباحثون أن الغزوة كشفت عن تطور نوعي في قدرات الجيش الإسلامي، سواء من حيث تكتيكات الحصار أو إدارة المعارك داخل الحصون المحصنة، إضافة إلى وضوح مبدأ الالتزام الأخلاقي في الحروب من خلال ضمان حقوق غير المحاربين والالتزام بالعهود. كما أن نتائج الغزوة ساهمت في توسيع دائرة النفوذ الإسلامي شمال الجزيرة العربية، ومهّدت للمرحلة التي تلتها من الفتوحات.
وبحسب التحليلات المعاصرة، فإن أهمية غزوة خيبر لا تتوقف عند بعدها العسكري، بل تمتد لتشمل تأثيرها في تعزيز الاستقرار السياسي وإعادة رسم خريطة التوازنات في المنطقة، إذ أدت إلى إضعاف التحالفات المعادية للمسلمين وتعزيز قوة الدولة الناشئة، مما جعلها واحدة من أهم العلامات الفارقة في تاريخ الإسلام المبكر.
وتظل الغزوة موضوعًا للبحث والدراسة حتى اليوم، خصوصًا عند تناول كيفية بناء الدولة الإسلامية لنظام واضح في الإدارة وتوزيع الموارد، وكذلك في تحليل تطور الفكر العسكري والقدرة على مواجهة القوى الكبرى في المنطقة. ومع ازدياد الاهتمام بالدراسات التاريخية، تعود غزوة خيبر لتبرز باعتبارها محطة مركزية تكشف الكثير من أسرار بناء القوة الإسلامية في بداياتها.