عظماء الإسلام من دولة بني عثمان (5) (السلطان مراد الثاني بن محمد بن بايزيد الصاعقة )
تقرير: نورس العبدالله
تمر الدول والأمم والحضارات بانتكاسات وانكسارات قد تنجم عن خلل داخلي أو عدوان خارجي أو فاجعة طبيعية ما ، لكن الدول العظيمة والأمم المجيدة هي تلك التي تنهض من بعد كسر و تمضي من بعد عسر و تستأنف مسيرها من جديد .
مررنا معاً في الجزء الرابع من السلسلة بما حل من فاجعة كبرى نتيجة انتصار جيوش تيمور لنك المغولي على جيش العثمانيين بقيادة السلطان الشجاع بايزيد يلدرم أي الصاعقة في معركة أنقرة ووقوعه بالأسر و وفاته فيه .
وما تلى ذلك من سنوات عشر عجاف سادتها الفتن والحروب والنزاع على السلطة وسط تقلص مساحة الدولة و تعرقل مسيرتها العطرة في فتح البلاد و نشر الإسلام و توحيد الامارات .
إلا أن رسوخ ما تم تأسيسه من قبل ذلك من قبل عظماء أربع ابتداءاً بالغازي عثمان و أورخان و مراد الشهيد والصاعقة بايزيد جعل النهوض من جديد وشفاء الجرح يحصل بزمن قصير .
استطاع السلطان محمد بن بايزيد توحيد الدولة وتوطيد الأجواء وبالبدء بالبناء حتى توفي في عام 1421 م /824 ه ورغم ذلك الجهد إلا أن آثار الفوضى مازالت ممتدة وللفتنة رؤوس ولنارها مؤججون كثر .
فكان لابد على من يتولى الأمور أن يكون بمواصفات خاصة ليستطيع النهوض من جديد ، وبالفعل كان في تلك المرحلة العصيبة بطل من أبطال الأمة وشاب من شبابها الشجعان والمحبين للجهاد وهو ابن السلطان محمد السلطان مراد الثاني الذي تقلد الأمور في عمر ثمانية عشر عاماً فقط وقد عرف بالعدل بين الناس و رحمة في الفؤاد فاستبشر الجميع به لتوافق صفاته صفات جده مراد الأول الشهيد الصالح والولي الورع ، ويعتبر السلطان مراد الثاني لدى الكثير المؤسس الثاني للدولة العثمانية .
كانت الايادي الخارجية الأوربية منها عموماً والبيزنطية خصوصاً سعيدة بما حصل وأحسنت استغلال ذلك افضل استغلال واستمروا في زرع الفتن وتحريض الامراء ودعمهم كي يقسموا الدولة وتنازع أمرها ، فدعموا عم السلطان وشقيقه في التمرد عليه وطب السلطة لأنفسهم ،إلا أن حزم السلطان الشاب ووضوح رؤيته لوحدة الدولة واستمرار مشروع الأمة جعله يسحقهم ويسحق التمرد الحاصل و يضبط الأمور جميعها .
وقرر السلطان تلقين البيزنطيين درساً قاسيا فهاجم سالونيك التي تخضع لهم بعد تنازل عمه عنها وعن سواحلها في عام 1403 م ودخلها في عام 833ه ووطد الحكم في اليونان عموماً و سارت الجيوش في البلقان واعادة فتح البلاد و قضت على التمرد هناك و فرض على ملك الصرب الجديد معاهدة وجزية وخضوع .
خاض السلطان وجيشه الحروب في البانيا الجنوبية واخضعها و حارب البانيا الشمالية في حربين ومناوشات كثيرة وفي عام 1438م حارب المجر في معركة كبيرة وسحق جيشها و أسر سبعين ألفاً منهم واقترب من بلغراد عاصمة صربيا بل وحاصرها لمدة ستة شهور ورفع الحصار لمناعتها .
إزاء ذلك النهوض والعودة المرعبة للعثمانيين بعد سنوات من الراحة وكما حل مع أجداده من قبل نهض حلف أوربي بمباركة البابا وبالتعاون مع القسطنطينية بهدف طرد العثمانيين من أوربا كلها .
تقدمة جيوش الدول المتحالفة عابرة نهر الدانوب ومتقدمة بالبلاد لتخوض عدت معارك كبرى مع العثمانيين مالت فيها الأمور لصالح الجيوش الصليبية دون فوز ساحق مما أوصل الأطراف لمعاهدة صلح وقعت بين السلطان و قائد الحملة الصليبية وملك المجر ( لاديسلاسي ) لمدة عشر سنوات .
عند ذلك عاد السلطان للأناضول ليفجع بموت أبنه الأكبر علاء الدين فحزن عليه ودخل في خلوة وعزلة وتفرغ للعبادة تاركأً الأمور بيد أبنه محمد ومجلس من المستشارين الأفاضل .
إلا أن الحال لم يدم فقد اقتنع البابا أوجين الرابع بضرورة نقض العهد والاتفاق مع العثمانيين ومهاجمتهم واستغلال عزلة مراد وتولي الفتى محمد فنكثوا بعهودهم ومواثيقهم وهاجم جيش الصليبين مدينة فارنا البلغارية في ساحل البحر الأسود ففزع المسلمون واستنهضوا السلطان مراد فهب بجيشه وعبر البحر إلى المدينة و التقى الجيشين في معركة ضخمة وحامية الوطيس وعلى راس رمح السلطان وضعت المعاهدة دلالة على غدر الأوربيين وكذبهم وزيادة في حماسة المسلمين وفي أتون المعركة شاء العلي القدير ان التقى السلطان مراد بملك المجر الخائن للعهد وتقاتلا حتى ضربه السلطان وقتله وتم النصر في هذه المعركة التي جرت في عام 1444 م .
تضعضع الجيش الصليبي وتدافع فاراً بعد مقتل ملكه وسط تكبير المسلمين فكان النصر وساد فرح كبير لدى المسلمين في شتى الانحاء وخرج العلماء والأهالي في القاهرة للدعاء للسلطان فرحين بعودة كبيرة للدولة العثمانية .
عاد السلطان المنتصر وهو مستمر في زهده الى عرينه في مغنيسيا واعتزل هناك معيداً الأمور الى ابنه محمد فقد تنازل مرتين عن السلطنة إلا أن تمرد كبيراً في الانكشارية نشب وتهددت وحدة البلاد مما جعله من جديد يعود لتولي الأمور وضبطها وخاض بعدها آخر معاركه مع جيش اوربي مجري جديد في وادي قوصوة عام 1448 م بقيادة ما يعرف بالفارس الأبيض وهزمهم وباتت البلقان حصينة بوجه الأوربيين بعد أن يئسوا منها .
حتى توفي في الحكم في قصر أدرنه يبلغ من العمر 47 عاماً فقط في عام 1451 م 855 ه .
يشهد له بحب العلم والشعر والادب والعلماء فقد حول قصره لأكاديمية جامعة ورغم ذلك كان زاهداً جداً في الدنيا و محباً للعزلة والتعبد ويعتبر من رجالات الورع والزهد ،وقد طور الجيش العثماني تطوراً كبيراً حيث استخدمت المدافع والبندقية ورفع عدد المراكب والسفن الحربية .
رحل السلطان مراد الثاني عن الدنيا وقد أرسى من جديد قواعد الدولة واعاد هيبتها وواجه الفتن الداخلية والتمرد وهزم الاتحاد الصليبي و فتح الحصون والمدن وقمع الفتن ، وقد كان على كثير من صفات جده مراد الشهيد تقاً وورعاً وشجاعة وقد أنجز ما يسمى بالانبعاث المعجزة دون إنكار جهود والده محمد جلبي في ذلك .
ماذا بعد ذلك النهوض وما الذي يتنظر الأمة عموماً والعثمانيين خصوصاً على يد السلطان الشاب محمد بن مراد الثاني بن محمد جلبي بن بايزيد الصاعقة بن مراد الشهيد بن أورخان بن عثمان الغازي وأي إمبراطورية ستتحول اليها الدولة وأي مكانة ستتربع هي نتاج جهود تراكمية لمشروع النهضة العثمانية بالأمة المسلمة و ثمار ما زرع مراد الثاني رحمه الله وأسس من جديد وهو موضوعنا في الجزء القادم .