عظماء الإسلام من دولة بني عثمان (6) (السلطان محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد الأول )
ليس بالاستشراق اليهودي نفهم تاريخنا ......
عبارة ذهبية قالها الدكتور محمد حرب في متن كتابه القيم ( العثمانيون في التاريخ والحضارة ) ويجب أن لا تغيب عن أذهان الأجيال المتلاحقة في معرض اطلاعهم على كل دسيسة وتشويه وتسفيه للتاريخ المجيد للأمة الاسلامية عموماً و العثمانية خصوصاً، واستناداً لتلك القاعدة الذهبية يمكن القول أن أشد من يهاجم المستشرقين من قادة في تاريخ الأمة الإسلامية هم أشد من كان وجودهم وجهودهم مضراً للغرب ومصالحه ومعزاً للأمة و مدافعاً عنها ، فعلى قدر الألم الذي ذاقه الأعادي على أيدي هؤلاء يكون هجومهم وتزداد دسائسهم .
وما يجب لفت الانتباه إليه هو تطور أسلوب الاستشراق اليهودي حديثاً فبدلاً من الطعن الظاهر المفضوح بات الأسلوب يعتمد قاعدة أكثر عمقاً وأبعد مدى وهو المديح الظاهر و الطعن الخفي الناعم وبذلك تصبح المكائد أعمق واشد متانة .
نستمر في سلسلة عظماء الإسلام والذي نستعرض من خلالها سيرهم وأهم الأحداث التي وقعت في عصرهم ونطلع من خلال ذلك على نفحة من سيرة الدولة العلية في مسيرة حياتها .
ولقد كنا في الجزء السابق أمام رجل عظيم هو مراد الثاني بن محمد الاول بن بايزيد يلدرم و قد استطاع اعادة توازن الدولة الى ما كانت عليه قبل انتكاسة معركة أنقرة مع جيش تيمور لانك القوة التي عاثت في الأرض فساداً شرقاً وغرباً، وعند وفاته انتقلت الأمور ليد شخصية فريدة ورجل عظيم طال انتظاره وكأنه فارس رصد لأجله باب مدينة عظيمة كما تروي الأساطير و الحكايات تماما ً .
إنه السلطان الفاتح محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد الأول بن بايزيد الصاعقة بن الشهيد مراد بن أورخان بن عثمان الغازي أي أنه السلطان السابع من الأسرة الطيبة المجاهدة .
ولد السلطان محمد في 19 رجب من عام 835 ه /30 أذار 1432 م وبعد وفاة والده وقد كان يبلغ من العمر واحداً وعشرين عاماً في عام 1451 م وقد كان قوياً صاحب عدلٍ وطموح كبير و محباً للتاريخ والعلم مجيداً للعديد من العلوم واللغات ووارثاً للنفس الجهادي المبارك الذي منحه الله تبارك وتعالى للأسرة المجاهدة هذه .
وكان السلطان صاحب رؤية ادارية طموحة وشاملة فانطلق بعملية اصلاح وتطوير في شتى المجالات وهرع ينظم الشؤون المالية و التنظيمية و المؤسسات للدولة مانعاً البذخ والإسراف والتبذير ومهتماً بشكل كبير بتطوير الجيش وتسلحيه و تهيئته للملاحم الكبرى التي يخطط لها .
كان أثر ذلك واضحاً على الاستقرار الداخلي للدولة و الذي كان بنظر السلطان الحكيم ضرورة للاستمرار في الفتوحات و مواجهة الأعداء ونشر نور الهدى والاسلام في أوربا أي الاستمرار في المشروع الكبير للدولة العثمانية بتحرير البشر من سيطرة واهواء النفوس الى عبادة الله ونور الاسلام وهداه .
كان فؤاد السلطان و عقله وناظريه باتجاه واحد وقضية جوهرية ألا وهي فتح القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية تلك المدينة التي طالما حاصرها المسلمون منذ فجر الاسلام الى عهد ابيه والتي بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها على يد جيش وأمير مباركين ،فكان يعد العدة ويهيأ الظروف لذلك الموقف العظيم وقد ساهم العلماء الذين أشرفوا على تنشئته على زرع ذلك الطموح في نفسه وعلى رأسهم الشيخ المربي آق شمس الدين الذي كان يقول للأمير بانك المقصود بالحديث الشريف .
لقد درس السلطان جيداً كل المحاولات السابقة لفتح المدينة وبدأ بالتخطيط الجيد للمعركة وامداد الجيش بالجنود حتى وصل قرابة الربع مليون مقاتل مع تدريب وتسليح جيد واستقدم مهندس مجرياً مشهوراً أشرف على صناعة مدفع ضخم يسمى المدفع السلطاني وعمل على تطوير الأسطول البحري و بلغ عدد السفن 400 سفينة جاهزة للمعركة ، والأهم من ذلك كله عقيدة جهادية واضحة وناصعة زرعت في الجيش كله و بث به انه الجيش المبارك المقصود بالحديث الشريف .
بدأ بإقامة قلعة روملي حصار في الجانب الأوربي من مضيق البوسفور في أضيق النقاط منه مقابلاً لقلعة جده بايزيد الصاعقة في القسم الآسيوي واصبحت السيطرة النارية على البحر تمنع عبور أي سفينة وتستطيع إغراقها .
لم تقتصر استعدادات السلطان الشاب على الجوانب المادية والإدارية بل شملة دها سياسيا كبيراً إذ عمد إلى تقليل قائمة الأعداء من خلال المعاهدات التي أبرمها ورغم ذلك هرعت تلك الدول والممالك الأوربية لنجدت القسطنطينية عند الهجوم عليها .
كان امبراطور بيزنطة على علم بالتحضيرات ولجأ لك الوسائل المتاحة لثني السلطان عن هدفه حتى قدم الرشاوى للأمراء العثمانيين لمنع السلطان من الهجوم ولجأ أخيراً الى الاستنجاد بالبابا وإخضاع الكنيسة الشرقية له مقابل النجدة .
لقد كانت القسطنطينية باختصار من اشد مدن العالم حصانة بموقعها و اسوارها وبعد استطلاع وتخطيط ونقل المدافع والجيوش وصل السلطان في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857 ه الموافق 6 أبريل 1453 م الى مشارف المدينة واستهل السلطان الأمر بخطبة عصماء في الجيوش حثهم فيها على النصر أو الشهادة في سبيل الله وقرأ من كتاب الله وأحاديث نبيه وسط حماسة الجيش و تكبيره ودعائه وكيف لاتصل تلك الكلمات للقلوب وهم يعرفون أن السلطان وأجداده ما تركوا ساحات الوغى يوماً و لا فروا عند اللقاء على عكس كثير من الملوك الذين يرسلون الجيوش و يتنعمون في القصور :وبدأت معركة من معارك الحق الكبرى .
بدأ القتال و حمي وطيس المعركة ودكت المدافع العثمانية وعلى رأسها المدفع العملاق أسوار المدينة الحصينة والتي أجاد البيزنطيون تحصينها و تخطيط الدفاع عنها و سقط الكثير من الشهداء من الجيش العثماني في الأيام الأولى خاصة الذين كانوا يحاولون اقتحام الأسوار .
كانت المساعدات العسكرية الأوربية تصل إلى المدينة ويقدم المتطوعون للقتال دفاعاً عنها وعند دخول القائد جوستنيان من جنوى أصبح القائد العسكري المدافع عن المدينة .
حقيقة لقد استبسل العثمانيون براً وبحراً في محاولة الاقتحام كما استبسل المدافعون عن المدينة ولقد كان الحصار المفروض على المدينة ناقصاً من جهة مضيق القرن الذهبي الذي مازال تحت سيطرة البيزنطيين وحتى يوم 18 أبريل كانت البحرية العثمانية تعجز عن اقتحام المضيق وتتلقى الخسائر الكبيرة .
قرر السلطان عزل قائد البحرية العثماني وتعيين القائد حمزة باشا مكانه إثر عجز البحرية عن منع السفن الأوربية من الوصول للمدينة وكان يشارك السلطان بنفسه من على الساحل في الاشراف على المعركة .
تلك الخسائر البحرية والبرية كان لها بالغ الأثر في طلب بعض المستشارين والوزراء وعلى رأسهم خليل باشا الذي عارض الحملة أساساً رفع الحصار إلا أن السلطان صاحب الإرادة الحديدية ما كان ليثنيه شيء عن هدفه .
فكر القائد العظيم بحنكة المبدع العبقري وبأسلوب مبتكر عرض على القادة العسكريين نقل السفن عن طريق البر الى المضيق الذهبي وبالفعل نفذت الخطة على صعوبتها و نقلت السفن ثلاثة أميال وأنزلت سبعين سفينة في القرن الذهبي في تلك الليلة ليتفاجأ العدو بها في الصباح حول أسوار المدينة البحرية في ليلة 22 أبريل وسط تكبير وتهليل المسلمين وذهول الأعداء .
اشتدت هجمات العثمانيين وتكررت محاولاتهم وسط يأس أصاب المدافعين وتعب كبير وظلت الهجمات البرية موجات تتلوها موجات وسط استبسال الجند وتزاحمهم للشهادة في سبيل الله وقصف مدفعي لا يهدأ .
استخدم المسلمون أسلوباً جديداً بحفر الأنفاق الى داخل المدينة وسقط الكثير من الشهداء حرقاً بالزيت عندما أدرك المدافعون الخطة وكرر المسلمون الحفر والمحاولة العديد من المرات .
كان لجيش المهندسين العثمانيين دور كبير في كل ما يجري وشاهداً على التطور العلمي العسكري وفنون القتال ولقد صممت قلاع خشبية مضادة للنيران وبارتفاعات أعلى من الاسوار وأوقعت بالصليبين الكثير من القتلى حتى دمرت اخيراً .
أدرك السلطان قرب سقوط المدينة فعرض مجدداً تسليمها سلماً على قسطنطين حاكم المدينة إلا أن الحاكم وقيادته قرروا القتال حتى الموت دفاعاً عنها .
كثف السلطان الهجوم والقصف حتى انفجر المدفع السلطاني ذاته وقتل الصانع المجري أوربان واشتد القتال وسط صمود المدينة .
وهنا استشار القائد من جديد مجلسه بالخيارات المتاحة فاسهب خليل باشا كعادته بشرح صعوبة فتح المدينة وطلب الرجوع و التحذير من أوربا وجيوشها إلا أن أبطال الإسلام الذين لهم قلوب لا تلين ولا تهاب الموت في سبيل الله وعلى رأسهم القائد زوغنوش باشا و طرخان باشا و الشيخ آق شمس الدين والمولى الكوراني الذين أكدوا على وجوب الاستمرار حتى يأذن الله بنصره فاستبشر السلطان بمن معه من قادة ومجلس شورى .
واستمر الحال وصولاً ليوم 28 مايو حيث اتمت الاستعدادات للهجوم الشامل والسلطان يمر على الكتائب خاطباً فيها و محفزاً لها بالمجد العظيم والحديث الشريف عن ذلك الجيش وبأنهم أهل ذلك الشرف العظيم .
وفي الساعة الواحدة صباحاً من يوم الثلاثاء في 20 جمادى الأولى سنة 857 ه الموافق 29 مايو 1453 م انطلقت الجحافل تزأر في سبيل الله في هجوم شامل على المدينة براً وبحراً وحتى ساعات الصباح كانت الفرق تتوالى والمدافعون يستبسلون ويتساقط الشهداء إلا أن تمكنت فرقة من ثلاثين فارساً انكشارياً من رفع الأعلام العثمانية فوق أحد الاسوار وتمهيد الطريق للجيوش للاختراق .
وتمكن العثمانيون من اقتحام المدينة من طرف آخر من باب أدرنه وقتل قسطنطين في المعارك بع رفضه للهرب وترك المدينة وتهاوت معنويات الجند بموته وانساب العثمانيون فيها .
وفي ظهيرة يوم الثلاثاء 29 مايو 1453 م كان السلطان في وسط المدينة يحتفل بالنصر العظيم مع جنده يأمرهم بالرفق بالناس و الإحسان إليهم و يسجد لله شكراً .
ماذا فعل السلطان وكيف عامل أهل المدينة و ماذا حل بالعالم بعد ذلك .
يتبع في الجزء القادم ....................