“المتروبوس” في إسطنبول.. كيف بدأت قصة نجاحه قبل 13 عاما؟
ازدحام شديد تشهده محطات مواصلات (المتروبوس) في إسطنبول، خصوصا وقت الذروة، حيث يقف الركاب في طوابير طويلة بانتظار ركوب الحافلات، التي تشهد هي الأخرى تكدسا شديدا، في ازدحام يتضاعف يوما بعد يوم.
حسب وسائل إعلام تركية، فإن سبب الزحام هو قرار رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، بتقليص عدد حافلات المتروبوس، لتوفير الأموال لخزينة الدولة، وفاء بوعود كان قد قطعها في برنامجه الانتخابي بالعمل على توفير ملايين الليرات لخزينة الدولة.
غير أن قراره بخفض الحافلات قوبل بحالة استياء واسعة من قبل الأتراك، ما جعله يتراجع عن قراره، لكنه في نفس الوقت لم يتخذ بعد تدابير عاجلة لحل مشكلة الزحام المتنامية. فما هي قصة إنشاء المتروبوص في إسطنبول؟ وكيف بدأت الحكاية؟.
مشروع البداية
بعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2003، تم التباحث مع بلدية إسطنبول الكبرى حول إيجاد فكرة عملية وعاجلة لحل مشكلة الازدحام الذي يخنق المدينة، فوقعت الفكرة، بعد أشهر من النقاش، على إنشاء خط هجين يجمع بين فكرة قطار الأنفاق (المترو) كخط سير، والحافلة (الباص) كوسيلة نقل، سميت فيما بعد (المترو ـ بوس).
وبالفعل بدأ التخطيط للمشروع، والعمل على تنفيذه في عام 2005، ليتم افتتاح المرحلة الأولى منه عام 2007، ويختتم مرحلته الأخيرة عام 2012.
جاء مشروع "المتروبوس" كحل عاجل لمشكلة الزحام الذي يخنق مدينة إسطنبول، ومشكلة توقف حركة السير في كثير من الأحيان بسبب الحوادث المرورية المتكررة.
كانت فكرة "المتروبوس" هي المثالية من بين كل البدائل والخيارات المطروحة، حيث لا تتطلب وقتا طويلا في حفر الأنفاق، بل تم توسعة خط الأسفلت وتخصيص خط سير مغلق بسياجات حديدية من الجانبين، وتزويده بحافلات تعمل بالوقود، وإنشاء محطات صعود وهبوط، موزعة على طوال الخط.
مليون راكب
يتكون خط "المتروبوس" من اتجاهين متعاكسين، في خط سير يشق مدينة إسطنبول، ويبلغ طوله 52 كيلو مترا مخصص للحافلات، بحيث لا تستطيع السيارات الموجودة على جانبي الخط دخول مضمار المتروبوس، باستثناء سيارات الشرطة والإسعاف.
وتتوزع 45 محطة على طول خط "المتروبوس"، ممتدة على الشقين الآسيوي والأوروبي من المدينة، وتفصل نحو دقيقتين بالحافلة بين كل محطة ومحطة.
يعمل الخط على مدار 24 ساعة، بحافلات نقل تتجاوز 500 حافلة، تسع كل حافلة نحو 190 راكبا، 30 % يمكنهم الجلوس، ويعد هو المشروع الفريد في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، حيث لا يوجد في أي بلد عربي هذا المشروع، الذي يعد فكرة ذكية، بخدماته الكبيرة التي يقدمها للمواطنين، وبتكاليفه الأقل في إنشائه، مقارنة بتكاليف خطوط نقل أخرى كـ"المترو" أو "الترام واي".
ينقل المتروبوس نحو مليون راكب يوميا، ويعد وسيلة النقل المفضلة للموظفين والعمال والطلاب والسائحين والمسافرين، ويوفر لهم إمكانية تحديد ساعة وصولهم، ويؤمن لهم بلوغ وجهاتهم دون تأخير، كما أن كثيرا من مالكي السيارات يوقفون سياراتهم في أماكن قرب المحطات ويستقلون المتروبوس، ذهابا وإيابا، لتجاوز العراقيل والإشكالات الناتجة عن ازدحام خطوط السير.
حسب رئيس دائرة "المتروبوس" في شركة المواصلات بإسطنبول، عارف دوران، في حديث للأناضول فإن مشروع المتروبوس بدأ بـ 35 حافلة في عام 2007، وبعد استكمال المراحل أصبح عدد الحافلات 525 حافلة، يقودها 1229 سائقا.
يقول عبدالله يلدرم وهو مواطن تركي من سكان منطقة عمرانية في الجزء الآسيوي من إسطنبول لـصحيفة "الاستقلال": "إنكم لا تدركون كم كنا نعاني حتى نصل للطرف الأوروبي من مدينة إسطنبول، لقد كنا نستغرق يوما كاملا من أجل الذهاب والإياب إلى الطرف الآخر للمدينة، كان سفرا مكتمل الأركان، بكل ما فيه من مشقة وازدحام وكلفة مالية".
وأضاف: "كنا نحتاج لنحو 4 ساعات ذهابا وقد تصل لست ساعات وقت الذروة، ونحتاج لمثلها عند العودة، ولا حظوا أنني أتكلم عن التنقل في إطار مدينة واحدة، أما الآن فإن الانتقال من أقصى الجزء الآسيوي إلى أقصى الأوروبي، يستغرق نحو ساعة ونصف فقط، وهو زمن ثابت".
وتابع: "فضلا عن التكلفة المالية المعقولة حيث تكلف تذكرة المواصلات نحو 4 ليرات ( 75 سنت)، وللطلاب أقل من نصف هذا المبلغ، وهو مبلغ زهيد مقارنة بما كنا ننفقه في سياراتنا الخاصة، ومقارنة أيضا بتكاليف تذاكر المواصلات في أوروبا، لم أعد أتخيل كيف ستكون حياتنا بغير المتروبوس، وخاصة في المناطق التي لا يغطيها المترو أو الترام واي".
هجوم المعارضة
منذ اللحظات الأولى لإنشاء خط المتروبوس، شنت الأحزاب المعارضة والصحف التابعة لها هجوما حادا على حزب العدالة والتنمية الحاكم واتهمته بعرقلة خط السير، كما اتهمت الحزب بإهدار المال العام في مشاريع قالت إنها "فاشلة" رغم الاعتراف الأوروبي بنجاح هذا المشروع وتميزه، ونقله مليون راكب يوميا.
حسب الدكتور آدم كونيل أستاذ مادة التاريخ في جامعة صبانجا التركية في مقال نشره معهد العالم للدراسات، فإن "الصحف التركية المعارضة لحزب العدالة والتنمية، كثفت حملتها على المشروع، منذ بدايته، متهمة حزب العدالة الحاكم بالعبث بأموال البلد في مشروع عديم الجدوى، ولن يكون قادرا على حل مشكلة الازدحام".
وتابع: "رغم النجاح الذي حققه هذه المشروع، والذي نال اعترافا دوليا بنجاحه، إلا أنه مازال يتعرض لانتقادات من قبل تلك الصحف، في حال حصل حادث سير، كدخول سيارة على خط المتروبوس أو توقف باص لعطل فني".
ويتابع الدكتور كونيل: "يعد المتروبوس تجربة ثورية في تاريخ النقل الجماعي بتركيا، كان له أثر إيجابي وهائل على حركة المواطنين، إلا أن قطاعات صحفية بقيت عازمة على تصوير ذلك بشكل سلبي تماما، وبوصفه فشلا، وهذا التقييم السلبي سببه أمران: الكراهية الشديدة والعنيدة الذي تحمله المعارضة لأي مشروع ناجح ينجزه حزب العدالة والتنمية".
الثاني: "أنه مازال من المستحيل لدى الشريحة العلمانية في المجتمع التركي، والذين يعتبرون أنفسهم حمَلة الحضارة على النقيض من بقية المجتمع، أن يقروا أن هؤلاء الناس قادرون على أن ينجزوا أشياء عظيمة، ويزداد حقد هؤلاء عندما يرون أنهم عالقون بسيارتهم في الازدحام، وهم عادة من الطبقة الفارهة، في الوقت الذي يمر بجانبهم "المتروبوس" بسرعة وبدون أي عراقيل حاملا معه أبناء الطبقة الدنيا والمتوسطة.
مآرب أخرى
إلى جانب كونه قدم خدمة لمليون مواطن يوميا، وهو عدد هائل، وأحدث ثورة في تاريخ النقل والمواصلات بإسطنبول، كان أيضا عاملا مهما في تحسن الوضع الاقتصادي وانتعاش سوق العقار، حيث ارتفعت الشقق السكنية والمحلات التجارية القريبة من خط المتروبوس، وبلغت مستويات قياسية، وغدا سعر الشقق والمحلات التجارية "والمولات" وقيمة إيجارها مرتبطة بقربها من محطات المتروبوس.
فضلا عن حركة المدفوعات النقدية التي تتم عبر بطاقات المواصلات والتي تبلغ سنويا نحو 3.5 مليار ليرة تركية سنويا، حسب تصريح لرئيس بلدية اسطنبول الكبرى السابق مولود أويصال.
بالإضافة إلى ذلك، أسهم المتروبوس في تحديد معالم المدينة للساكنين والزوار، وجعلت منه السلطات الحكومية معلما للتقسيمات الإدارية، وخطا فاصلا بين معظم البلديات، فبلدية إيسنيورت، على سبيل المثال، يفصلها عن بلدية بيلكدوزو خط المتروبوس، أو ما يمسى بخط الـ E5.
أسهم خط المتروبوس في الحفاظ على البيئة، وذلك من خلال تقليل انبعاث الغازات الصادرة عن السيارات الخاصة، والتي يتم تركها في أوقات كثيرة واختيار المتروبوس كوسيلة للتنقل من قبل المواطنين.
صناعة تركية
تم تنفيذ مشروع المتروبوس على عدة مراحل، ومنذ العمل عليه في 2005، والمؤسسات التركية في تطوير مستمر، للخطوط والمحطات وحافلات النقل.
كان رئيس بلدية إسطنبول السابق عن حزب العدالة والتنمية مولود اويصال المنتهية ولايته في أبريل/نيسان 2019، قد كشف أن بلدية إسطنبول بصدد إدخال حافلات جديدة من نوع Akia صناعتها تركية، إلى أسطول الحافلات العاملة في خط المتروبوس، وذلك للحد من الازدحام الذي يحصل بشكل يومي جراء الإقبال عليها، في ساعات الذروة.
وقالت البلدية: إن الحافلات الجديدة يبلغ طولها 20 مترا، بثلاث مقطورات، وتسع نحو 280 راكبا، بزيادة نحو 30 % في الطاقة الاستيعابية، عن الحافلات العاملة.
وأضافت البلدية أنها في مرحلة إجراء اختبارات الحمولة والتشغيل، وذلك لضمان سلامة المواطنين، وعدم عرقلتهم.
بالإضافة إلى ذلك طورت البلدية آلية شحن البطاقة عن طريق النت، وذلك للحد من الزحام على آلة شحن البطاقة في محطات المترو، وذلك عبر تطبيق (Istanbul Kart) الذي يستخدمه على نظام أندرويد أكثر من 500 ألف مشترك.
ويجري النقاش حاليا، في بلدية إسطنبول الكبرى، حول تمديد خط المتروبوس من آخر محطة له في الشق الأوروبي بمنطقة "بيوك تشكمجي"، ليصل إلى منطقة سيلفري بخط سير يبلغ طوله نحو 35 كيلو مترا.
المصدر/ صحيفة الاستقلال