تحفظ خانة أو الكرنتينا.. أول مركز عثماني للحجر الصحي بفلسطين
تحفظ خانة أو الكرنتينا.. أول مركز عثماني للحجر الصحي بفلسطين
في منطقة تبعد مئات قليلة من الأمتار جنوب المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل، يقع ما يعرف اليوم بـ"عيادة الكرنتينا"، وسابقا باسم "مبنى السرايا" أو "تحفظ خانة" وفق التسمية العثمانية، حيث استخدمه العثمانيون للحجر الصحي قبل عشرات السنين.
المسؤول بوزارة السياحة والآثار الفلسطينية، الدكتور طالب جبران، قال إن كلمة "كرنتينا" تعريب للكلمة الإنجليزية Quarantine، أي حجر، وأطلقت على القلعة العثمانية التي بنيت لأغراض الحجر الصحي في مدينة الخليل.
وأضاف لوكالة "الأناضول"، أن مبنى الكرنتينا شُيد بطريقة هندسية توحي بأنه كان من المباني المهمة زمن العثمانيين "فهو مبنى مربع الشكل، محاط بسور حجري مرتفع، داخله يوجد ساحة، وتنتشر داخل المبنى غرف لكل منها استخدامها الخاص".
معمار فلسطيني عثماني
في أعلى البوابة الرئيسية للمبنى دونت ديباجة تأسيس المبنى، تشير إلى تشييده في عهد السلطان عبد المجيد الأول بن محمود سنة 1265هجرية (نحو 1848ميلادية)، بحسب أستاذ التاريخ بجامعة الخليل الدكتور شوكت حِجّة.
وفي حديثه لـ"الأناضول"، قال حِجّة "جميع ما هو داخل وخارج المكان هو بناء عثماني بامتياز".
وبين أن "منشآت كهذه بنيت في أوروبا والوطن العربي لمواجهة الأوبئة، لكن يعتقد أن المبنى المشيد في الخليل هو الثاني عربيا بعد بناء مماثل في دمشق عام 1834".
أما على صعيد التسمية، فأوضح المحاضر الفلسطيني أنه كان يسمى بداية "تَحفظ خانة"، أي "مكان الحجر"، في حين عرف باسم السرايا (بيت الحكومة) في أماكن أخرى.
وقال أيضا "إن الذي يميز البناء العمراني للكرنتينا أنه شيد كقلعة، إضافة إلى ما يميز البناء العثماني من أقواس وقباب".
وأوضح حجة أن المبنى "استخدم قديما مكانا للحجر الصحي، ودارا للحكومة، ثم حول إلى عيادة صحية زمن الانتداب البريطاني قبل نحو ١٠٠ عام، واستمر كذلك حتى اليوم".
حجر صحي وغرف نقاهة
أما الدكتور محمود بشير دويك، مدير عيادة الكرنتينا، فبين أن "المبنى استخدم لاستقبال زوار مدينة الخليل من الخارج، وتحديدا تركيا وأوروبا لزيارة المسجد الإبراهيمي، بحيث يُحجر الزوار للتأكد من سلامتهم البدنية مع انتشار الأوبئة".
وأردف "الذين كانت تثبت سلامتهم كانوا يغادرون إلى مقاصدهم، أما من تظهر عليهم علامات الإعياء فيحجرون في غرف خاصة في الجزء الجنوبي من المبنى".
وأوضح أن "المبنى منقسم إلى قسمين يفصل بينهما حديقة غير مسقوفة، الأول جنوبي فيه غرف الحجر، وهي مغلقة تماما حاليا، ولا يعرف ما بداخلها، والثاني شمالي استخدم مكانا للنقاهة بعد الشفاء".
أما من يتوفى فكان يدفن خارج سور القلعة في مقبرة كبيرة ما زالت قائمة إلى اليوم، بحسب الدويك.
وتابع "مبنى الكرنتينا يستخدم حاليا عيادة تابعة لوزارة الصحة الفلسطينية، مع المحافظة على جمال المكان، وقيمته التاريخية والأثرية".
رقمان عثمانيان
وفي دراسة سابقة أعدها خصيصا للرقمين العثمانيين على مدخل المبنى، يوضح رئيس جامعة القدس المفتوحة الدكتور يونس عمرو، أن "الرقمين مثبتين في العقد نصف البرميلي لمدخل مبنى الحجر الصحي".
وأضاف أن هذين الرقمين "هما رقم الطغراء أو التوقيع السلطاني، ورقم التوثيق العثماني للمبنى المسمى باللغة التركية (تحفظ خانة)".
وفي وصفه لرقم الطغراء يقول عمرو "لوحة فوق الرقم التوثيقي جاءت بمثابة تاج لها في شكل بيضاوي، كتب فيه (عبد المجيد خان بن محمود دام مظفرا)".
وزاد "أما الرقم التوثيقي العثماني فهو أسفل الطغراء، وجاء محفورا بالخط الفارسي وباللغة التركية العثمانية، وترجمة نصه (أنشأ سلطان البلاد عبد المجيد خان محيي العدل هذا الحجر الصحي، الذي يعتبر من مآثره العظيمة، أنشأه بباب واحد وزينه باسمه، سنة 1265هـ)".
وعن أهمية الرقمين أفاد عمرو "تكمن أهمية هذين الرقمين، في كونهما توثيقا يسجل لواحد من المعالم الحضارية الإنسانية في مدينة الخليل".
وختم بالقول "كما أن الرقمين يشكلان آية من آيات الخط العربي في طرازين، الأول الطغراء والثاني لوحة الخط الفارسي".
وتنتشر في فلسطين كما الدول العربية المختلفة آثار حضارية عثمانية كثيرة، من مبان خدمية قديمة متميزة بطرازها المعماري، ولا تزال آثار خط الحديد الحجازي الواصل من إسطنبول للحجاز، شاهدا في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والسعودية على أهمية الأثر العثماني في المنطقة.
الحجر الصحي القديم
ويعود مصطلح الحجر الصحي للقرن الـ14 في مدينة البندقية الإيطالية، واشتق من كلمة تعني أربعين يوما، وهي الفترة التي طلب فيها عزل ركاب السفن في جزر قريبة لمعرفة ما إذا كان لديهم أعراض الطاعون، قبل أن يسمح لهم بالوصول لشواطئ المدن أثناء الوباء أو الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا بين عامي 1347 و1352 والذي قضى على قرابة 30% من سكان القارة، أي حوالي ٢٠ مليون إنسان.
وقبل تطبيق الحجر الصحي في جنوى والبندقية ومدن جنوب أوروبا، عرفت دمشق تطبيق العزل الصحي، فقد أمر الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبد الملك -الذي حكم ١٠ سنوات بين 705 و715م الموافق لما بين 86 و96هـ، ببناء أول مستشفى "بيمارستان" في دمشق وأصدر أمرا بعزل المصابين بالجذام وتجنب اختلاطهم ببقية المرضى في المستشفى.
وأجرى الخليفة رواتب للمرضى بما في ذلك المجذومون، وقدم المعونة والعلاج مجانا، وانتقى أفضل الأطباء والمعالجين لخدمة المرضى.
واستمرت ممارسة الحجر الصحي الإلزامي لمرضى الجذام في المستشفيات العامة بالعالم الإسلامي لقرون، وفي عام 1431 بنى العثمانيون مستشفى للجذام في أدرنة التي كانت عاصمة عثمانية قبل فتح القسطنطينية (إسطنبول).