هل الملك شيشناق مصري أم جزائري أم ليبي أم تونسي؟
ثار جدلٌ كبير كان بطلُه "شيشنق الأول"، وهو رجلٌ عظيم حكم مصر الفرعونية منذ 3 آلاف عام، اعتبره بعض النشطاء الجزائريين من أصلٍ أمازيغيّ، وآخرون اعتبروه ليبياً، كما جاء بعض النشطاء التونسيين ليعتبروا أن أصوله من تونس، بينما نَسَبَه المصريون بطبيعة الحال إلى أجدادهم الفراعنة. فمن كان هذا الرجل الذي تختلف حوله 4 شعوب الآن؟
هل يمكن أن يكون هناك فراعنة غير مصريين؟
ربما يكون الجواب بسيطاً عن هذا السؤال، ولا يحتاج إجابات معقدة، فحتى الدول والحضارات الكبرى كانت تمرّ بفترات ضعف وتنهزم أمام حضارات أخرى أكثر شباباً منها. إضافةً إلى سببٍ آخر وهو أن الكثير من الطبقات الحاكمة كانت أحياناً ما ترتبط بزيجات سياسية من خارج قطر الدولة التي تحكمها.
فمثلاً، جميعنا يعرف قصّة النبي يوسف (عليه السلام) الذي كان بمثابة وزير مالية في حكومة فرعونية أصيلة. وربما حصل عبر التاريخ أن وصل فرعون من أصولٍ غير مصرية خالصة إلى حكم مصر الفرعونية، لكنّ هذا لا يُشكّك في مصريّته أيضاً. كيف ذلك؟ سنشرح هذا من خلال قصّة الفرعون المصري ذي الأصول غير المصرية شيشنق الأوّل، وفق ما أتيح من مصادر قليلة تحكي عنه.
من أين بدأت المشكلة إذن؟
يحتفل الأمازيغ برأس السنة الأمازيغية عادةً في بداية شهر يناير/كانون الثاني من كل سنة، وقد صادفت هذا العام 12 يناير، واحتفالاً بهذه المناسبة قامت مدينة تيزي أوزو الجزائرية بإقامة تمثال كبير للفرعون المصري شيشنق الأول باعتباره من أصلٍ أمازيغي، وهنا بدأت التعليقات والمناوشات على مواقع التواصل الإجتماعي. وللقراءة أكثر حول رأس السنة الأمازيغية، يمكنك قراءة هذه المادة.
وبينما أصرّ ناشطون تونسيون على أنّ هذا الفرعون قَدِم هو وأسرته من تونس، اعتبره الليبيون من القبائل الليبية التي نزحت إلى مصر، بينما اعتبره جزائريون من أصلٍ أمازيغي وهو ما جعل مدينة تيزي أوزو تقيم له تمثالاً. بينما بالطبع ينافح المصريون عن فراعنتهم باعتباره مصرياً.
هل هزم شيشنق الأول رمسيس الثالث؟
يعتمد الجزائريون وغيرهم على روايةٍ تاريخية تقول إن شيشنق الأوّل قد هزم الفرعون المصري رمسيس الثالث في معركةٍ حدثت على ضفاف النيل عام 950 قبل الميلاد، ليصبح بهذا مؤسس الأسرة الثانية والعشرين الفرعونية.
لكن هذه الرواية لا تتوافق مع بعض الحقائق التاريخيّة الأخرى. فأولاً كان رمسيس الثالث من فراعنة الأسرة العشرين، وقد توفي عام 1155 قبل الميلاد، بينما حكم الفرعون شيشنق الأول منذ عام 943 حتى عام 922 قبل الميلاد. فهناك فارق زمني طويل بين الاثنين قرنين من الزمان. هذه أوّل حقيقة.
الحقيقة الثانية أنّ الفرعون رمسيس الثالث كان من فراعنة الأسرة العشرين، بينما أسّس الفرعون شيشنق الأوّل الأسرة الفرعونية الثانية والعشرين. فبين الاثنين أسرة فرعونية كاملة، هي الأسرة الحادية والعشرين.
ثالث هذه الحقائق أنّ مصر الفرعونية شهدت في عهد رمسيس الثالث فترة حكم قوية، استعادت فيها مصر هيبتها وتأثيرها ونفوذها الإقليمي، بل ويقال إنّ الفرعون رمسيس الثالث قد غزا ليبيا وأخضع القبائل الليبية التي كانت تحاول الدخول إلى مصر من الغرب والاستيطان في وادي النيل، وقد أخذ الفرعون رمسيس الثالث الكثير من الأسرى من هذه القبائل.
لكنّ هذا أيضاً لا ينفي أنّ تولِّي الفرعون شيشنق الأوّل حكم مصر الفرعونية كان تحولاً سياسياً ضخماً، ليس فقط في مصر وإنما كذلك على مستوى منطقة شمال إفريقيا والبحر المتوسّط، فقد اعتبر شيشنق ذو أصولٍ أجنبية، فكيف وصل إلى رأس هرم السلطة في مصر إذن؟
شيشنق الأوّل.. هل كان من بقايا الأسرى الذين أسرهم رمسيس الثالث؟
إجابة هذا السؤال ليست معروفةً تماماً. فوفقاً لبعض الروايات التاريخية الأخرى فإنّ شيشنق الأول ينتمي لقبائل "المشواش"، وقد أطلق المصريون على هذه القبائل اسم قبائل "مي" وترجع أصول هذه القبائل المصرية القديمة إلى إحدى القبائل الساحلية في ليبيا الحالية.
بدأت هذه القبائل الاقتراب أكثر وأكثر من الحدود الغربية المصرية في محاولة منهم لاستيطان الدلتا ووادي النيل، وقد مثَّلت تحركاتهم هذه تهديداً للفراعنة، فبدؤوا حروباً طويلة معهم، انتصر الفراعنة عليهم وفي النهاية أخذوا منهم أسرى، وتحوّل الأسرى لاحقاً إلى عمال وجنود، ومن هؤلاء الجنود صعد شيشنق الأول.
شيشنق الأول هو أحد أفراد الجيل الخامس لقبائل المشواش، وقد أدمجت هذه القبائل بشكلٍ كبير في المجتمع والدولة، فمنهم أصبح الجنود والقادة.
ويسرد لنا المؤرخ المصري سليم حسن في موسوعته الكبيرة عن تاريخ مصر الفرعونية، في الجزء التاسع الذي يحكي تاريخ "حكم دولة اللوبيين لمصر" أنّ تاريخ تولية شيشنق الأول "لا يمكن معرفته على وجه التأكيد" كما يعتقد أنّ تاريخ توليته الحكم قد حصل بعد عام 945 ق. م.
ثمّ يكمل بداية هذا الفصل بالفقرة التالية: وقد كَشَفَتْ لنا اللوحة التي دوَّن عليها "حور باسن" تاريخ أحد عجول أبيس عن تاريخ أسرة شيشنق الأول ورسوخ قدمها في مصر منذ زمنٍ طويل، وقد عرفنا منها ومن غيرها من النقوش ما كان لهذه الأسرة اللوبية من نفوذ في أنحاء البلاد، وبخاصة من الوجهة الحربية والوجهة الدينية.
ووفقاً لسليم حسن فإنّ أسرة شيشنق الأول كان لها شأنٌ خاص في مصر أكثر من مجمل قبائل الشمواش، وقد كانوا أصحاب نفوذ وسلطان في منطقة "أهناسيا المدينة" وهي حالياً في محافظة "بني سويف" المصرية. وقد عمل أحد أجداد شيشنق الأول كاهناً "والد الإله" وهو بمثابة الكاهن الأكبر.
وقد استطاع شيشنق الأول فرض نفوذه وسلطانه بعدما أصبح "الرئيس الأعلى الحربي" أي ما يوازي القائد الأعلى للجيش المصري. ولكن، كيف أصبح شيشنق فرعوناً في النهاية؟
لا يبدو التحقيق التاريخي ميالاً لرواية أنّ شيشنق قد انتصر في معركةٍ على الفرعون رمسيس الثالث، للأسباب التي ذكرناها سابقاً.
كان آخر ملوك الأسرة الواحدة والعشرين الفرعونية اسمه "بسوسنس"، ولم يعتلِ شيشنق الأول عرش مصر قبل وفاة هذا الفرعون، غير أن آلية وصوله للحكم ليست معروفة تماماً.
ويقول الدكتور سليم حسن في موسوعته التالي: ليس لدينا أي دليل على أن شيشنق الأول قد اغتصب الملك قسراً، أو ما يشير إلى قيام أي ثورة للاستيلاء على العرش، بل على العكس نرى أن هذا الفرعون كان يمجد آثار من سبقه من ملوك الأسرة الواحدة والعشرين، والظاهر أنه قد عمل على أن تكون توليته الملك بصفة شرعية، ويدل على ذلك أنه زوَّج ابنه أوسركون الذي أصبح فيما بعد الفرعون أوسركون الأول من ابنة الملك "بسوسنس" التي تُدْعى ماعت كارع.
وهكذا، يبدو هذا التحليل هو الأقرب للصواب: لقد كان شيشنق الأوّل من قبائل المشواش التي استوطنت سواحل ليبيا، وحاولت لاحقاً الاستيطان في دلتا مصر، ولكنّ الفراعنة هزموهم ثمّ دُمجت بقاياهم في المجتمع. وفي الجيل الخامس من هذه القبائل التي أدمجت وأصبح منها ضباط كبار برز شيشنق، الذي زوّج ابنه من ابنة آخر فرعون في الأسرة الواحدة والعشرين، وهكذا أصبح هو مؤسس الأسرة الفرعونية الثانية والعشرين، وحكم فرعوناً للبلاد.
تبقّى أن نذكر أنّ التفاصيل عن شيشنق ليست متوفرة بكثرة، لكنّ هذا الملك استطاع توحيد مصر بعدما كانت قد بدأت البلاد تتفكّك مع ضعف الملك بسوسنس، واستطاع كذلك أن يضم بعض مناطق الشام. وهكذا أسس شيشنق أسرة فرعونية حكمت مصر طيلة قرنٍ من الزمان.
المصدر: عربي بوست