عبادة الاعتكاف في رمضان.. وهل يجوز أداؤها في المنزل؟

عبادة الاعتكاف في رمضان.. وهل يجوز أداؤها في المنزل؟
عبادة الاعتكاف في رمضان.. وهل يجوز أداؤها في المنزل؟

عبادة الاعتكاف في رمضان.. وهل يجوز أداؤها في المنزل؟

وردتني أسئلة كثيرة حول الاعتكاف داخل البيوت، جاء في أحدها: أحس بتقصير كبير، وألم شديد حيث حُرِمت من الاعتكاف، الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، فهل يمكن أن نعتكف في مساجد بيوتنا، ويحسب لنا أجر الاعتكاف في المسجد؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وبعد:

فإن الاعتكاف في المساجد سنة مؤكدة في شهر رمضان، لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وأكثر تأكيداً في العشر الأواخر منه حيث واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فهو سنة في بقية الأزمنة والشهور، لما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، وغيرهما بسندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم: اعتكف في آخر العشر من شوال، ويجب بالنذر بالاتفاق.

والحكمة فيه هو تسليم النفس بالكلية إلى الله تعالى طلباً للقرب من الله تعالى ورضاه، واستكمالاً لدور الصيام في مدرسة التربية الروحية طوال الليل والنهار، وإصلاح القلب والنفس من خلال التزكية.

وقد وردت في فضل الاعتكاف أحاديث صحيحة، منها الحديث الصحيح" سبعة يظلهم الله بِظِلِّه يوم لا ظل إلا ظله"، منهم:" ورجل تعلق قلبه بالمساجد"، وقد فُسِّر بالمعتكف فيها.

الاعتكاف في المساجد والجوامع:

يصح الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ولكن الجامع أولى، واشترط بعض الفقهاء أن يكون المسجد مما تقام فيه الجمعة، ولكن الراجح القول الأول؛ لأن الله تعالى أطلق فيه فقال: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، فلم يقيده بالمسجد الجامع، ثم إن كان المعتكف ممن تجب عليه الجمعة، فيخرج إلى أدائها، ثم يعود إلى معتكفه.

الاعتكاف في مساجد البيوت:

اتّفق الفقهاء على أنه لا يجوز الاعتكاف للرجل إلا في المساجد، لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا في المسجد، وكذلك أمهات المؤمنين، كما ذهب أكثرهم أيضاً إلى أن اعتكاف المرأة لا يصح إلا في المساجد.

وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها -وهو المعد لصلاتها-، ويكره لها تنزيهاً أن تعتكف في المسجد، ولا يصح اعتكافها في غير موضع صلاتها من بيتها، كما إذا لم يكن فيه مسجد، ولا تخرج من بيتها إذا اعتكفت فيه.

وجاء في كتاب الأصل للإمام الشيباني:" ولا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها، ولا تعتكف في مسجد جماعة"، ولكن بعض الحنفية فسّروا شرط هذا المنع من باب الأفضلية، قال أبو بكر أحمد:" يعني أن اعتكافها في مسجد بيتها أفضل من اعتكافها في مسجد جماعة، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن".

ووافق الحنفيةَ الإمامُ الشافعي في القديم في صحة اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، قال إمام الحرمين:" ونص الشافعي في القديم على أنها لو اعتكفت في مسجد بيتها (وهو مُعْتَزَل في البيت مهيأ للصلاة، وليس مسجداً على الحقيقة) أجزأها... ثم ذكر أئمتنا في الرجل إذا اعتكف في مسجد بيته قولين، مرتبين على المرأة".

فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خفف على المرأة، وجعل صلاتها في بيتها أفضل من المسجد، فقال لأم حميد:" وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي".

الفتوى:

بناءً على المقدمات الآتية:

عدم إمكانية الاعتكاف في الجوامع والمساجد بسبب تفشي وباء كورونا (كوفيد ــ19) واتفاق المؤسسات الدينية على ذلك، بناء على التوجيهات الصحية، وبناء على خطورة هذا الوباء الذي فتك بأرواح ما يقرب من 300 ألف شخص، وحصدها خلال الأشهر القليلة الماضية، وإصابة أكثر من 3 ملايين وتأكيد المتخصصين (أهل الذكر) تأكيداً قاطعاً على أنه مرض معدٍ خطير ينتقل بسبب التجمعات، وغير ذلك مما ذكرته الجهات المتخصصة الإقليمية والدولية.

وبناءً على أن مسألة الاعتكاف من السنن المؤكدة المصاحبة لصيام الشهر الفضيل، ويتشوف إليها المسلمون بشوق كبير.

وبناءً على أن مسألة الاعتكاف في المساجد والجوامع خلافية بالنسبة للمرأة، وفيها خلاف كبير معتبر، حيث إن الحنفية والشافعي في القديم يرون جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، بل هو الأفضل عند الأحناف، بل قال أكثرهم يكره لها في المسجد.

وبناءً على الخلاف المذكور بالنسبة للرجل حيث وجدنا قولاً أو وجهاً بجواز اعتكاف الرجل أيضاً في مسجد بيته.

ظهر لنا ما يأتي:

أولاً: جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، واحتساب أجر الاعتكاف لها بإذن الله تعالى، وبخاصة في ظل عدم فتح المساجد والجوامع للمعتكفين.

ثانياً: جواز اعتكاف الرجل في مسجد بيته في البلاد التي تكون الجوامع والمساجد كلها غير مفتوحة للمصلين والمعتكفين، ويحسب له أجر الاعتكاف بإذن الله تعالى.

أما إذا كانت مفتوحة كما في بعض البلاد فلا يجوز اعتكافه في غير المساجد العامة، بل الأفضل هو أن يعتكف في المسجد الجامع الذي تصلى فيه الجمعة.

والمبرر للفتوى هو ما يلي:

وجود أقوال فقهية، وبالتالي فالموضوع ليس محل إجماع قاطع.

أن الاعتكاف هو من السنن الطوعية، وليس من الفرائض التي يشدد فيها أكثر من السنن، حيث إنها مبنية على التيسير، كما أن مقاصد الاعتكاف هو التعبد والتفكر وترويض النفس، والاستمرار على العبادة، وإكمال عبادة الصيام بالنهار من خلال عبادة الليل بالاعتكاف والقيام والصلاة والذكر.

أن الاعتكاف يختلف عن الجمعة في كثير من الأمور الجوهرية، من حيث الفريضة والشعيرة والجمع والسعي، وغير ذلك، في حين أن الاعتكاف عبادة فردية لا يشترط فيها الجمع، بل ولا يشترط وجود شخص آخر مع المعتكف.

أن المسجدية – بالنسبة لأداء صلاة المرأة جماعة، والنوافل، والاعتكاف - تتحقق بنية أن يُخصص صاحب المنزل مكاناً معيناً داخل البيت، أو غرفة خاصة لتكون مسجداً لأهل المنزل، وحينئذ تتحقق المسجدية المطلوبة للاعتكاف من الخلوة والتعبد والتفكر والتزكية والتربية، وبخاصة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" وجعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً".

هذه الفتوى خاصة بالبلد الذي منع فيه فتح المساجد والجوامع من أداء الصلوات والاعتكاف فيه، ولذلك فإذا زال الوباء بإذن الله تعالى، أو أن البلد لا يزال المسجد فيه مفتوحاً فلا يجوز للرجال أن يعتكفوا إلا في المساجد.

وأطالب المعتكفين بتطبيق جميع ضوابط الاعتكاف وشروطه، ومن أهمها:

المكث في مسجد البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة ملحة، أو ضرورة، ثم العودة إليه فوراً.

النية الصادقة لله، والعزم على تربية النفس وتزكيتها مع التوبة الصادقة والتضرع إلى الله، والبكاء على الذنوب والقصير.

عدم المباشرة بين الزوج والزوجة كما قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.

الانشغال بالتلاوة والذكر والصلاة والتسبيح ونحو ذلك.

هذا والله أعلم

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الدكتور علي محيي الدّين القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مشاركة على: