تعرّف على سلطان العارفين الذي خاطب الحضارات بالحب
أنجبت تركيا شخصيات صنعت تاريخها وأخرى غيرت مستقبلها، لا يزال تأثيرها يتجاوز الماضي والحاضر إلى المستقبل، لتظل في ذاكرة الشعوب خالدة على الرغم من رحيلها عن الحياة منذ مئات السّنين.
ومن أبرز الشخصيات التي ظلت في ذاكرة الشعب التركي وباقي الشعوب الإسلامية خالدة، العالم الإسلامي المتصوف جلال الدّين الرّومي، الملقب بـ “مولانا”.
ولد الرومي في مدينة بلخ التي تقع اليوم في أفغانستان، في 30 أيلول/سبتمبر 1207، لأسرة علمية تربطها مصاهرة بالأسرة الحاكمة في الدولة الخوارزمية، فقد كان والده أحد علماء المذهب الفقهي الحنفي، وقد لُقب لمكانته العلمية وجراءته في قول الحق والإنكار على الأمراء الظلمة بـ"سلطان العلماء"، ترجع بعض المصادر نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ووالدته مؤمنة خاتون، ابنة أمير بلخ ركن الدّين.
رافق جلال الدين الرومي والده في الترحال إلى بلدان عديدة، منها بغداد التي عاش فيها لفترة قصيرة وكان عمره 4 سنوات، درس العلوم الشرعية على يدي والده أولا، ثم على تلميذٍ لوالده يُدعى برهان الدين المحقق الترمذي، وبعد سفره إلى الشام لطلب العلم سنة 630هـ تتلمذ على عدد من الشيوخ الذين أخـذ عنهم بعض العلوم الشرعية والعقلية ومبادئ علم التصوف.
استقر في ولاية قونيا الواقعة وسط تركيا، وكان عمره تسعة عشرة عامًا، وبقي فيها حتى وفاته، في 17 كانون الأول/ديسمبر 1273، بعد أن تنقل طالبا للعلم في عدد من المدن أهمها دمشق.
اشتغل الرومي بالفتوى والتدريس، فأقبل عليه التلاميذ واستمال الناس بعلمه وزهده حتى لقبوه ب"إمام الدين" و"عماد الشريعة"، وبلغ عندهم مرتبة من سعة العلوم والمعارف دعوه بسببها "سلطان العارفين".
أنشأ طريقة صوفية عرفت بالمولوية، متبعا تعاليم الدين الإسلامي السمح، فاستطاع جذب العديد من الأشخاص، ممّن ينتمون إلى ملل أخرى بفضل سماحته ومرونته في التفكير والتعامل، فامتاز بالتساهل اللامتناهي في العديد من الأمور والتعقيدات المنتشرة، كما أسّس المذهب المثنوي في الشعر، حيث استخدم الشعر، والموسيقى في سبيل الوصول إلى الله، في حب خالص له، يبتعد فيه عن الناس، بكتابة مئات آلاف أبيات الشعر عن العشق الإلهي والفلسفة.
حُظيت أشعاره الصوفية برواج كبير في العالم بعد أن ترجمت لعديد من اللغات، ولقيت استحسانا من المسلمين وغير المسلمين، بالإضافة إلى الرقص الدائري، الذي يعد من الطقوس المتبعة أيضاً، وتم تصنيف أعمال الرومي إلى عدة مصنّفات، وهي: الرباعيّات، ديوان الغزل، رسائل المنبر، مثنوية المعاني، ديوان شمس الدين التبريزي، مجلدات المثنوي الستة، المجالس السبعة، بالإضافة إلى العديد من الرسائل التي كان يكتبها إلى مريديه.
وبعد مرور أكثر من 747 عامًا على رحيله، يبقى العالم جلال الدين الرومي، أهم شعراء وأعلام التصوف الفلسفي في التاريخ الإسلامي، وأكثرهم تأثيرا على مر العصور، ومثالا عظيما للتسامح، متّبعا تعاليم الدين الإسلامي، حيث وُصف أنه العالم ذو الرؤية الرسالية العالمية التي تخاطب كافة حضارات العالم باعتبارها مصدر الهام لكل الناس.
وتحرص تركيا في كل عام على إحياء ذكرى رحيله التي مرّ عليها مئات السّنين، في ولاية قونيا حيث عاش وتوفي ودُفن الرومي، وذلك من خلال تنظيم فعاليات وبرامج تتضمن حفلات للموسيقى الصوفية، وعروضا للرقصة المولوية "السّماح"، إلى جانب معارض وندوات ومؤتمرات ومسرحيات تحاكي تاريخ وسيرة "الرومي".
ومن أشهر أقوال مولانا الرومي:
"فيما مضى كُنت أحاول أن أُغير العالم، أمّا الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أُغير شيئاً سوى نفسي".
“هكذا أود أن أموت في العشق الذي أكنه لك، كقطع سحب تذوب في ضوء الشمس”.
“ارتق بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر الذي ينميّ الأزهار وليس الرعد”.