اللغة العربية بين أبناء الجاليات العربية في أوروبا...مصيرٌ مجهول
مصيرٌ مجهول تنتظره لغةُ الضاد على ألسنةِ الوافدين الجُدُد ، من أبناء العربيّة ، الذين استقرّت بهم السّبُل في أصقاع القارة الأوروبية ، و وجدوا أنفسهم مضطرّين إلى الانشغال باللغة الجديدة كي يتسنّى لهم الاندماج في المجتمع الجديد ، و الدخول إلى سوق العادات و التقاليد الطارئة عليهم ، و التماهي كذلك في أروقة العمل الذي يُحَتّم عليهم لكنةً جديدة لم يألفوها من قبل ، بل هي أشْبَهُ بذلك الضيف الذي يفرض عليك واجبَ الاهتمام سواءً حَسُنَ أم ساء .
و المتتبّع اليوم لواقع اللغة العربية بين أبناء الجاليات العربية في أوروبا يدرك تماماً حجم الخطورة التي تداهم لغتنا الأمّ ، لاسيّما عندما يقترب من خط التماس المباشر مع أبناء الجاليات العربية الأخرى ، التي تقيم في أوروبا منذ عقود طويلة ، فيرى أنّ جُلّ ناشئتهم لا يعرفون عن العربية إلا القليل القليل ، و لا قدرةَ لديهم على قراءة نصوص الضاد قراءةً سليمة أو حتى قراءةً قريبةً و لو بشيء إلى السلامة اللغوية .
بل إنّ المعضلة تتفاقم أكثر عندما يرى أنّ خطيب الجمعة يضطر في كثير من الأحيان إلى ترجمة فحوى خطبته إلى اللغة المحليّة كي يتسنّى للشباب العربي المتواجد في المسجد استيعاب مافي جعبته ، و ذلك لأنّ غالبية المتواجدين ليسوا على مقدرة عالية لفهم اللغة العربية ، بل إنّ حديث الشباب العربي اليافع فيما بينه لا يتمّ إلّا باللغات الأجنبية المحلية ، و بالتالي لا وجود لشيء اسمه اللغة العربية على ألسنتهم ، طالما أنّ البيئة المحيطة بهم من الشاكلةِ نفسِها .
ذات المصير يترقّب ألسنة الوافدين الجُدُد إلى أوروبا ، و أمارات ذلك بدأت تلوح في الأفق ، فالفتيةُ الذين هم في طليعة العقد الثاني من عمرهم ، بدأت تتلاشى معالم العربية من ذواكرهم شيئاً فشيئاً ، و راحوا يصبّون معظم إمكانياتهم و طاقاتهم في الاندماج الجديد ، و اللغة الوليدة ، و العادات و التقاليد الجديدة ، أضف إلى ذلك أولئك الصغار الذين هم دون سنّ العاشرة ، و الذين التحقوا بمدارسهم الأجنبية ، فكانت المصيبة لديهم أشدّ و أعظم ، إذ بدأت تُنقَشُ في ذواكرهم ملامح اللغة الأجنبية و كأنها اللغة الأمّ ، دون إبداء أيّ اهتمام بلغة الجزيرة العربية ، و كأنّها أصبحت ماضياً مزعجاً يعود علينا بالوبال .
و لو بحثنا عن المسؤولية في ذلك ، لوجدنا أنّها تقع و دون أدنى شكّ على السادة أولياء الأمور ، الذين تركوا أبناءهم يسلكون الطريق ذاته الذي سلكه أبناء الجاليات الأقدم في أوروبا ، دون توجيهٍ أو تعليمٍ أو تلقين ، و كأنهم يصرّون على إعادة الخطأ ذاته ، و من البوّابة ذاتها ، أو كأنهم استغنوا عن الضاد و لغته ، لسان حالهم هو : ما الحاجة إلى إرهاق أنفسنا و أبنائنا في تعليم اللغة العربية الصعبة التي لا جدوى منها في هذه البلاد ، فإذا كان حَمَلةُ الشهادات العليا في العربية هم آخر من يُشار إليهم في هذه القارة العجوز ، فهل الألف الممدودة و المقصورة و الماضي و المضارع و الأمر و هلمّ جرّى ستجلب لنا لبن العصفور ؟!!! وَيْ ! كأنّ اللغةَ أصبحت فقط وسيلة لكسب المال أو تأمين فرصة عمل مربحة تدرّ في جيوبنا الدولارات ، فإذا كانت كل لغات العالم كذلك ، فلنعلم أنّ لغتنا العربية ليست كذلك ، طالما أنّها لغة القرآن الكريم ، و لغة النبي محمد عليه الصلاة و السلام.
فكيف سيقرأ أبناؤنا الذين هم أمانةٌ في أعناقنا ، كيف سيقرؤون القرآن الكريم ، و هم لا يعرفون عن العربية سوى مبادئ الكلم أو ربما لا يعرفونها ؟! و هل سنتعافى أمام ملكوت السموات و الأرض من هذه الخطيئة الكبرى إذا استمر الوضع على ماهو عليه ؟! من البديهةِ بمكان ، أن يتعلّم اللاجئ لغة البلد المقيم فيه ، و أن يصل إلى مستوى جيد في القراءة و التعامل مع القانون الجديد ، و هذا أمر طبيعي جداً ، و لكنّ الذي يُقلِق الألباب هو إهمال اللغة الأمّ ، و نبذها و الاستعابةِ منها ، و الانتقاص من شأنها ..
و مع توافد عدد كبير من أبناء الجاليات العربية نحو أوروبا في السنوات الأخيرة ، ازدادت نسبة المدارس العربية هناك ، و تمّ افتتاح مدارس عربية جديدة إلى جانب القديمة ، بالإضافة إلى بعض المراكز الإسلامية التي تقوم بتعليم الفتية اللغة العربية في أيام العطل الرسمية ، و قد أثمرت تلك الجهود و وصلت إلى نتائج مُرضية ، و نزيد من الشعر بيتاً أو بيتين ربّما ، إذا قلنا أنّ بعض المدارس العربية الرسمية في هولندا مثلاً ، أصبحت تنافس مدارس التعليم الهولندية الأساسية في البلاد ، حتى في تعليم اللغة الهولندية ، فعلى سبيل المثال نالت المدرسة العربية في مدينة Herleen جنوب هولندا ، المرتبة الأولى في تعليم اللغة الهولندية على مستوى هولندا بالكامل ، فإذا كان هذا النجاح قد أينع في مجال اللغة الهولندية ، فكيف هو الحال إذاً في تعليم اللغة العربية ؟! لابدّ أنّ النتيحة ستكون مُثلِجة للصدور .
لذلك يترتب على السادة الكرام أولياء الأمور ، البحث عن أقرب مدرسة عربية أو مركز إسلامي ، لإلحاق أبنائهم به في أقرب وقت ، و لو كان هذا الإلحاق فقط في يومي السبت و الأحد ، و هي أيام العطلة الأسبوعية الرسمية ، و بذلك يتمكن أبناؤنا من التقاط أنفاسهم العربية التي حبسناها عنهم نحن الأولياء ، إذ أننا نحتمل الوزر الأكبر في هذا الصدد ، و بذلك نستطيع إمساك خيوط اللعبة من الطرفين ، فمن طرف يكون أبناؤنا قد تابعوا أمور لغتهم الجديدة و الاندماج الجديد ، و من طرفٍ آخر تعود إليهم روح اللغة العربية التي لا حياة بدونها على الإطلاق .