اقرأ التاريخ إذ فيه عبر
بقلم: أ. علي الصاوي
"إن السياسة هي فن السفالة الأنيق" هكذا قالها أنيس منصور قديمًا، وهذا رجل دخل أروقة الدبلوماسيين الكبار وأطلع على خبايا المقادير السياسية وطرق اللعب الميكافيلية، التي لا تؤمن إلا بالمصلحة ولا تعرف طريقا للأخلاق أو القيم، بل شعارها هو كيف يسلك الساسة، وليس كيف يجب أن يسلك الساسة، فالضعيف مكانه على مائدة المفاوضات مجرد وجبة يتقاسمها الذئاب دون رحمة أو شفقة، فمهما كنت تملك من حق واضح كوضح الشمس في رابعة النهار، فهذا الحق مجرد سراب وباطل في شرع السياسة إن لم يكن هناك قوة تحميه.
أتابع الأحداث التي تجري على الساحة واقرأ تعليقات المتابعين واشاهد جلسات التفاوض، متجولا هنا وهناك بين صحافة الداخل والخارج، حتي خلصت إلى شيء، وهو أن المحلل السياسي لا يقلُّ دجلاً عن بعض الشيوخ الذين يسلكون طُرق الدجل، ويوهمون الناس أن سرّ شفاءهم في العلاج الروحاني المزيّف، فحين تطّلع على قراءات المشهد في إدلب وإرهاصات التجهيز للمعركة ومخرجات جنيف وأستانة وطهران، وتربطه بكلام المحللين الجهابزة نجوم الاستوديوهات الفارهة، يتبين لك أنهم تجار كلام يملؤون به مساحات إنتاج البرامج الفارغة، التى تحتار ماذا تعرض، وفي أى شيء تتكلم.
لكن من يعود للتاريخ ويربطه بما يحدث في المنطقة يستطيع أن يستنشق رائحة المستقبل بكل سهولة، ويعرف أي الطرق التي تؤدي إلى النصر وأيها إلى الهزيمة، فكثير من قادة الرأي يدعون الفصائل لتسليم السلاح ايثارا للسلامة وحفاظا على أرواح المدنيين، ومثل هؤلاء كمثل من شهدوا ووافقوا على تسليم غرناطة، أخر معاقل بلاد الأندلس بعدما أخذوا وعوداً كاذبة بالأمان والحماية من الإسبان، ومثلهم كمثل "كيرمنس" قائد قوات حفظ السلام الهولندي الذي طلب من مسلمي البوسنة تسليم أسلحتهم وتعهد بحمايتهم.
لكن فماذا حدث للاثنين؟
في الأندلس أُقيمت محاكم التفتيش للمسلمين وعُذبوا بشتى الطرق البشعة، بآلات ما زالت موجودة في المتاحف الإسبانية كدليل وشاهد على ما حدث للمسلمون من قتل وتعذيب بشع وتهجير قسري، فهل وفّر لهم الاستسلام الأمن والحماية؟ بالطبع لا.
أما عن مسلمي البوسنة فقد حدثت معهم أسوء جريمة قتل عرفتها البشرية وهي مذبحة "سربرنيتشتيا" التي لن يمحوها الزمان من الأذهان، فمع قدرتهم في الدفاع عن أنفسهم، إلا أنهم صدقوا وعود الصليبي الهولندي الحاقد، المبعوث من الأمم المتحدة بقوات لحفظ السلام هناك، ومع مطلع الفجر تفاجئ أهالي سربينيتشيا بدخول القوات الصربية عليهم، دون أن تتدخل قوات حفظ السلام الهولندية و تركتهم يتعرضون للقتل و الاغتصاب على يد الصرب حتى قتل 8000 مسلم في أقل من 4 أيام، وكان مجموع ما قُتل في النهاية 300 ألف إنسان، ولم ينفعهم استسلام.
لكن في ظل حالة اليأس التى كانت تخيّم على بلاد الأندلس كان هناك رجلا قلما يجود الزمان بمثله رجل بألف رجل، هو الوحيد الذي رفض تسليم غرناطة وهو ما تنبئ بما حدث لهم حرفياً بعد أن سقطت في أيدي فرديناند وجيشه، إنه "موسي بن أبي غسان " لا يعرفه كثيرون لكنه خلّد ذكراه بموقف بمائة رجل، فقد وقف في وجه الخونة والمهزومين نفسياً، وقال لهم: " إن الموت أقل ما نخشي فإن أمامنا نهب مدننا وتدنيس مساجدنا وهتك أعراضنا، وأمامنا الجلد والسياط والاطلاع، وهذا ما سوف تراه تلك النفوس الوضيعة التى تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا، فوالله لن أراه" وأرسل إلى فرديناند وقال له :إذا أردت سيوف المسلمين فلتأتي وتأخذها بنفسك، فإن العربي قد ولد للجواد والرمح، ثم قال لهم :لنقاتل حتى أخر نسمة، وإنه خير لي أن أحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة من أن أحصى من الذين شهدوا تسليمها" وخرج يقاتل وحده على فرسه وقتل منهم بعض الأفراد لكنهم تكاثروا عليه وطعنوه، لكنه استطاع أن يفرّ منهم وهو مطعون حتى سقط في مياة البحر، ولم يعثر أحد على جثمانه وقتها.
فهل تعدم الفصائل بسوريا أن تكون مثل هذا الرجل، وتقاتل لآخر رمق فيها ضد الصليبيين الروس والمجوس والنصيريين، حتى لو قُتلوا جميعاً، فإن شرف الهلاك أفضل بكثير من نذالة الحياة، فالأمم التي ماتت وهي تقاتل نهضت مجددًا، أما الأمم التي استسلمت في خنوع، انتهت.
- - - - - - -
وصدق الله حين قال : "ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة" وصدق رسول الله أيضا حين قال :" وما تركوا الجهاد إلا ذلوا"