يا غريب كُن "أديب"
تضعُ أزمة اللاجئين أخلاقَ المجتمعات المُضيفة على المحكّ، كما تختبرُ واقع اللاجئين وأنماط تفكيرهم، والحال التي وصلوا إليها أعقاب خوضهم وقائعَ استثنائية.
والبديهي أنّ اللاجئين أصحاب قضية، وقادرون على تقديم أنفسهم بشكل يتلاءم مع عُمقها، ويُفترض أيضاً أن يكون رد فعل الآخر المُضيف في السياق ذاته، بما في ذلك من احتواء لهذه القضية واستيعاب لأهلها، غيرَ أن بعض الحالات، ومنها السورية، كان رد الفعل من الطرفين مختلفاً تماماً، وخارجاً عن المألوف.
منذ توافدوا إلى بلاد اللجوء بشكل عام، العربية منها والأجنبية، درج السوريون على فكرة مفادها بأن المجتمعات الأخرى أكثر مدينيّةً من مجتمعهم، لذا لا بدّ من احترام خصوصية البيئات الجديدة ومواكبتها، وهو تفكيرٌ سليمٌ وصحيٌ، سيما وأن السوريين تعرّضوا خلال عقود من الاضطهاد إلى أنماط مُكثّفة من التجهيل، ولم يلحقوا بركب التطور والانفتاح اللذين شهدتهما المجتمعات الأخرى، وأديا إلى تغييرات في بنيتها.
معَ ذلك، نجد أن السوريين في شتى بلدان اللجوء مُتهمون بالتقصير والبدائية، غذّى هذا الاتهام شعورهم بالدونية الاجتماعية، الناتج عن قراءاتهم السطحية للواقع والتاريخ، وعدم إدراكهم ثقل موقعهم بالنسبة للتحولات الجذرية التي تطاول المنطقة، والسبب الأخير والأهم هو تربيتهم القمعية. على سبيل المثال: تطارد السوريين في تركيا تهمة التصرفات المُسيئة للمجتمع، وعدم احترامهم عاداته. وعليه، تنتشر في الأوساط الشعبية التركية رؤىً تطالب السوريين بالتحوّل إلى "ملائكة"، وعدم إثارة أي شغب، ولا يُقصد بشغب هنا الأعمال المُخلّة حقاً، بل يمتد ليشمل منافسة الأتراك في العمل، ارتياد المطاعم والأسواق، مزاولة الحياة بشكل عملي من دون أن
"تطارد السوريين في تركيا تهمة التصرفات المُسيئة للمجتمع، وعدم احترامهم عاداته" يلاحقهم وزر الضيافة. وليس بدءاً بحادثة تحرّش شبانٍ سوريين بفتيات تركيات صيف عام 2017، والتي أفضت حينها إلى اتهام السوريين بتعدّيهم على مدنية المجتمع التركي، والمطالبة بعودتهم إلى بلادهم، ولا انتهاءً بموجة السخط العارمة التي اشتعلت أخيراً في الأوساط التركية، على خلفية احتفال السوريين بعيد رأس السنة، ورفعهم علم الثورة السورية في ساحة تقسيم في إسطنبول، فإن السوريين دائماً مُدانون، وحتى إذا ما ارتكب أحدهم جريمة، فإنها تُحسب لهُ الثانية فوقَ الجريمة الأصل (اللجوء).
المشكلة أن نسبةً لا بأس بها من السوريين تبنّت، وما تزال تتبنّى، منطق تبخيس النفس في مواجهة المشكلات وتفادي الانتقادات، ناهيك عن تأييد قسم منهم طروحات أنه ليس من حقّ الغرباء أن يفرحوا أو يحزنوا أو يعبروا عن مشاعرهم، والأجدر بهم أن يلزموا الصمت والتجرّد عن الذات، مهما امتدت فترة لجوئهم.
طبعاً الوضع في تركيا تحت السيطرة، ذلك أن الاستياء من السوريين ليس عاماً، والدولة التركية في كل مناسبة تضع حدوداً وخطوطاً فاصلة للحملات (الكارهة)، وتؤكد أن واقع السوريين في تركيا أكثر من جيد، ونسبة الإساءة والجريمة في بيئاتهم تكاد تكون معدومةً، بالمقارنة مع المجتمع التركي ذاته، وجديدها تصريحات لوزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، مطلع العام الجاري، حول تراجع نسبة الجرائم في المجتمعات السورية في الآونة الأخيرة من 2.8% إلى 0.8% قياساً مع 1.9% بين الأتراك.
كذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات الأوروبية التي لديها باع طويل في التعامل مع الأجانب، وتؤطّر كل معاملات اللاجئين ضمن القانون. وعلى الرغم من ذلك، لا يخلو الأمر من بعض
"منذ بدأ اللجوء، درج السوريون على فكرة مفادها بأن المجتمعات الأخرى أكثر مدينيّةً من مجتمعهم" الاعتداءات على السوريين التي يكون سببها رفض الأخيرين طبيعيّتهم. وفي المقابل، لا نستطيع إلقاء اللوم كله على السوريين، فبعض المجتمعات المُضيفة، سيما المجاورة التي لجأ إليها سوريون كثيرون رفعت منسوب إحساس السوريين باللاقيمة، وتعاملت معهم بكراهيةٍ أنستهم وقْعَ مصابهم، ووضعهم في حالة مواجهة جديدة مع عنف مضاد.
ولكن عدم تصالح السوريين مع فكرة أنّ من حقهم أن يخطئوا أو يسيئوا التصرّف، من دون أن يُنقص ذلك من شأنهم أو يحطّ من وزن مواقفهم، وأن من واجب المجتمعات تفهّم هذه الأخطاء، والتعاطي معها بموضوعية، هو المُشكل، وتحتاج تعريف السوريين بأنهم جزء من حتميةٍ تاريخية، جمعتهم مع شعوب أخرى على أرضٍ واحدة، وهي واقعةٌ لا يمكن التنصّل من مسؤوليتها أو النأي بالنفس عنها. لن يتم التطرق هنا إلى الاتجاهات السياسية، على اعتبارها محرّكاً رئيساً في تقبّل اللاجئين أو رفضهم، ونكتفي بالإشارة إلى دوافع السوريين في تقفير ذواتهم، ومؤاخذة أنفسهم لأسباب ليست منطقية.
في الأدبيات الشعبية مثل فحواه "يا غريب كن أديب"، أي كن مؤدباً، لكن، للأسف، أساء بعض السوريين فهم هذه المقولة، وبالغوا في تهميش ذواتهم وإضفاء اللامعنى على قضاياهم، وبعضهم إلى الآن مصرّون أنهم دخيلون على المجتمعات، ومن حقّها أن تجلدهم وتسلبهم أدنى حقوقهم. على الجهة الأخرى، هناك سوريون يشعرون بالاستحقاق أكثر من اللازم، وهؤلاء أيضاً يقعون في الخطأ عينه الذي يرتكبه مفرطو الأدب.