"نبع السلام" والسباحة عكس التيار !!
مع انطلاق عملية نبع السلام المشتركة بين الجيشين التركي والوطني السوري، المستهدفة لمناطق شرق الفرات بغية إقامة منطقة آمنة لإيواء اللاجئين السوريين، تصاعدت أصوات الإدانة لدرجة التهديد بالعقوبات تجاه تركيا، بالرغم من الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قبيل بدء العملية، فأصوات الإدانة غير المسبوقة سواءً من الدول الأوروبية أو العربية وحتى الأمريكية أخذت منحى ذو لهجة شديدة، فضلًا عن الحراك الداخلي في مؤسسات الدولة كالكونغرس ومجلس الشيوخ الذي هدد نواب فيه بعقوبات بحق مسؤولين أتراك، إضافةً لتفويض ترمب حسب وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين مسؤولين أمريكيين بصياغة مسودة لعقوبات جديدة "كبيرة جدا" على تركيا، حسب قوله.
منذ سنوات باتت سوريا مسرحًا لكثير من الدول التي جاءت من أصقاع الأرض بدعوى محاربة تنظيم الدولة، إلّا أنَّ صوتًا لم يسمع في تدخلها ووجودها على الأرض السورية، فيما تعالت الأصوات في وجه الجار الملاصق لسوريا والمستضيف للعدد الأكبر من لاجئيها. لكنَّ هذه المرة مختلفة!! فقد سبق وأن قامت تركيا بعمليات عسكرية في الشمال السوري، مستهدفة بعض المناطق؛ كعفرين والباب وغيرها، لكنَّ وتيرة تلك العمليات كانت محدودة، وردود الفعل كانت أقل حدة، فلماذا زادت الآن؟
13 مليون سوري نزحوا من ديارهم خلال سبعة أعوام بحسب مركز بيو للأبحاث، ما يمثل قرابة 60% من عدد سكان سوريا قبل الحرب، وهي نسبة نزوح لم تشهدها دولة من قبل خلال العقود الأخيرة، حيث توزعوا على مختلف دول العالم، وتركزت غالبيتهم بواقع 4 ملايين على الأقل في تركيا، وتكشف هذه الأرقام في حركة النزوح الكبيرة وتغيير الحالة السكانية أبعادًا أخرى تتعدى القراءة الظاهرية في كونها مجرد نتيجة حرب، إلى البحث في الأهداف التالية، والنتائج المرتقبة، فهل هناك غايات أخرى يراد لها أن تكون في المنطقة؟.
في المنطقة العربية من اليمن إلى سوريا والعراق، تتجلى التغيرات الديمغرافية بصورة واضحة، ويلاحظ أنَّ العامل السني هو الأكثر تأثرًا فيها، حتى بات مشهد تفريغ المنطقة من الثقل السني وخلق واقع جديد بتقسيمة جديدة، وهذا ما يبدو واقعًا حتى اللحظة، وكأنَّ المراد إعادة استنساخ الحالة العراقية التي تم فيها تحويل العراق القوي الذي كان يشكل سدّاً متينًا وحاميًا للمنطقة العربية من التدخلات والنفوذ الخارجي، إلى مجرد كيان تسوده الفوضى والصراعات، فجيء له بديمقراطية صنعت عراقًا جديدًا بمقاس أمريكي، فشُكل فيه نظام غارق في أزمات داخلية ليستحيل استقراره، فالتقسيمة الطائفية التي وضع على أساسها هذا النظام، وما تعنيه من ضعف وهشاشة لأركانه، فضلاً عما تتيحه تلك الحالة من تقسيم مكونات المجتمع، وإتاحة الفرص لكل الأطراف الخارجية التدخل والاستفادة من التناقضات الداخلية، ناهيك عن استهداف العنصر السني بالدرجة الأولى، وإقحامه في صراعات مع الشيعة ومع بعضهم، فبهذه الحالة من التشتت تمَّ ضمان وضع العراق في متاهة لا خروج منها.
في الحالة السورية يبدو أنَّ هناك مساع لاستنساخ التجربة العراقية من خلال التغييرات الديمغرافية التي تمت بعد موجات التهجير، فالسنة كانوا يشكلون غالبية التركيبة السكانية فيها، فيما غالبيتهم الآن مهجرين، ما يضمن انخفاض نسبتهم لدرجة كبيرة تقارب نسبة المكونات الأخرى، ما يؤهل لصناعة نظام على المقاس الغربي يدخل سوريا الجديدة في ديمقراطية المتاهة والصراعات، ويحمي بهذا الصراع الداخلي الجارة إسرائيل من أية مخاطر من المحيط.
لماذا يا أردوغان؟ منذ سنوات والرئيس التركي يطرح فكرة المنطقة الآمنة في الشمال السوري لتخفيف حدة اللجوء وتبعاته على الدول المتضررة منه، إلّا أنَّ هذه الدعوات لم تلقَ آذانًا صاغية، بالرغم من الفائدة المرجوة لأوروبا من هكذا حل في تخفيف موجات اللجوء إليها، وهنا يتجلى التناقض لتستبين الأهداف، فالعملية التركية وإن كانت ستعالج مشكلة دولية تتعلق باللاجئين، إلا أنها ستعيد الوضع الديمغرافي إلى طبيعته الأولى، وتبدد أية تغييرات ديمغرافية في المنطقة، لذا فأردوغان بات يسبح عكس التيار في عمليته، فكانت اللغة الغربية ومن سار في فلكها شديدة في ووجه!!.