من "عملية السلام" إلى "ممر السلام".. إرهاصات قبرص في شرق الفرات

من "عملية السلام" إلى "ممر السلام".. إرهاصات قبرص في شرق الفرات
من "عملية السلام" إلى "ممر السلام".. إرهاصات قبرص في شرق الفرات

من "عملية السلام" إلى "ممر السلام".. إرهاصات قبرص في شرق الفرات

تشبه التطورات المتعلقة بأزمة إقامة ممر إرهابي من قبل الوحدات الكردية على الحدود التركية شرقي نهر الفرات شمالي سوريا، إلى حد كبير تلك التطورات المتعلقة بأزمة قبرص والتي استمرت لسنوات طويلة وصولاً لتنفيذ الجيش التركي "عملية السلام" العسكرية الواسعة التي حسمت جزءا مهما من القضية.

وعلى الرغم من اختلاف المكان والزمان وتشعبات المسألة القبرصية عن قضية شرق الفرات، إلا أن كثيرا من التفاصيل المتعلقة بملف المنطقة الآمنة والمطروحة منذ أكثر من 7 سنوات، تبدو وكأنها نسخة مكررة من التفاصيل التي مرت بها الأزمة القبرصية قبيل عام 1974 وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام التكهنات حول ما إن كان السياق المتشابه للأزمتين سوف يوصل إلى نتائج متشابهة، أي عملية عسكرية تركية واسعة على غرار ما قام به الجيش التركي في قبرص.

وإلى جانب أوجه الشبه الكبيرة جداً في سياق تتابع الأحداث في السنوات التي سبقت التحرك العسكري التركي في قبرص والمتوقع في شرقي نهر الفرات، إلا أن إطلاق مجلس الأمن القومي التركي مصطلح "ممر السلام" على العملية المتوقعة، كان الإشارة الأكبر لإمكانية الإقدام على عمل عسكري كبير يتجاوز كافة المحاذير الدولية والتهديدات الأمريكية على غرار ما جرى في "عملية السلام" بقبرص.

من حيث الأهمية:

في قبرص، كانت المسألة تتعلق بمنطقة تعتبرها تركيا جزءا أساسيا منها، ومواطنون تعتبرهم أتراكاً كانوا يتعرضون لمجازر إبادة من قبل المليشيات الرومية، وكانت ترى في خسارة أي نفوذ لها في قبرص بمثابة تهديد مباشر للأمن القومي التركي وخسارة استراتيجية.

وفي شرق الفرات، يتعلق الأمر بأطول حدود لتركيا مع جيرانها، وبتهديد يعتبر الأول على أجندة السياسية التركية
منذ عقود، ويعتبر أمن الحدود السورية الملف الأول على أجندة الأمن القومي للبلاد أيضاً، حيث تواجه تركيا خطر حصول تغيير ديموغرافي وجغرافي وربما ظهور دولة جديدة معادية "الممر الإرهابي"، وانتشار تنظيم إرهابي معادٍ لها على حدودها، ومقدمة لإحداث تغيير ديموغرافي وإثارة للنزعات الانفصالية في تركيا.
سياسة النفس الطويل:

في قبرص، استخدمت تركيا سياسية النفس الطويل وحاولت حل المسألة عبر الطرق الدبلوماسية لسنوات طويلة، وقامت بمساعٍ واسعة لتحقيق أهدافها عبر الطرق السلمية، كما تواصلت التهديدات التركية باستخدام الخيار العسكري لسنوات طويلة، وهو ما دفع الكثير من الأطراف المحلية والدولية للتشكيك بجدية تركيا وحتى قدرتها على التحرك عسكرياً في ظل التعقيدات السياسية والعسكرية المحيطة بالقضية.

وفي شرق الفرات، يجري الأمر نفسه منذ سنوات طويلة، حيث سعت تركيا كثيراً ومن خلال مفاوضات مع أمريكا والاتحاد الأوروبي ودول عربية لدعم فكرة إقامة منطقة آمنة شمالي سوريا، ودخلت في مفاوضات ومباحثات طويلة، فشلت جميعها حتى الآن، وانتقلت إلى التهديد بالخيار العسكري الذي فقد هيبته بعد أن تأجل مراراً خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي دفع أيضاً الكثير من الأطراف المحلية والدولية للتشكيك بجدية أنقرة وقدرتها على التحرك عسكرياً شرقي نهر الفرات في ظل التعقيدات العسكرية والسياسية المتشابكة في المنطقة.

المماطلة الدولية:

في قبرص، طلبت تركيا الدعم من الأطراف الدولية لوقف المذابح التي قامت بها العصابات الرومية ضد القبارصة الأتراك لا سيما من أمريكا، وبريطانيا الضامن الثالث للأوضاع في قبرص، لكن دون أي جدوى، وعقب سنوات طويلة من المحاولات والمفاوضات والضغط على الأطراف الدولية الفاعلة، اقتنعت أنقرة أنه يتوجب عليها التحرك بمفردها لحماية مصالحها وحقوق القبارصة الأتراك.

وفي شرق الفرات، طلب تركيا مراراً من الاتحاد الأوروبي وأمريكا مساعدتها في إقامة منطقة آمنة، ووقف دعم التنظيمات الإرهابية في شمالي سوريا، لكنها لم تحقق أي نتائج حتى الآن، وكان الاتفاق مع واشنطن في منبج أكبر مثال على سياسة المماطلة الأمريكية، وهو ما دفع أنقرة للتهديد بأنها لن تقبل باتفاق مشابه لاتفاق منبج في شرق الفرات، وأن صبرها قد نفذ، وأنها اقتربت جداً من اتخاذ قرار بالتحرك بمفردها لحماية مصالحها وأمنها القومي.

التهديد الأمريكي

في قبرص، كانت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر المعارضين لأي تحرك عسكري تركي وهددت في أكثر من مرة بفرض عقوبات، وأرسلت "مكتوب جونسون" الشهير، الذي كتبه الرئيس الأمريكي ليندون جونسون عام 1964 وهدد من خلاله تركيا بعقوبات كبيرة في حال تنفيذ عملية عسكرية في قبرص وبفرض حظر على الأسلحة، وتلويح بتجميد عضويتها في الناتو، وغيرها من التهديدات، مستخدماً لغة وصفت بـ"المهينة" آنذاك.

وفي شرق الفرات، ترفض الولايات المتحدة بشكل مطلق أي تحرك عسكري أمريكي، وتشدد على أنها سوف تحمي الوحدات الكردية هناك بحجة أنها حليف لها في الحرب على داعش، ووصل الأمر للتهديد بمنع أي تحرك عسكري تركي وفرض عقوبات على أنقرة قد تشمل أيضاً حظر تصدير الأسلحة وعقوبات اقتصادية وغيرها.

التأجيل وتململ الجيش

في قبرص، اضطر الجيش التركي لتأجيل العملية أكثر من مرة، وفي مرتين على الأقل صدرت الأوامر بتجهيز الجيش بشكل نهائي للتحرك وجرى تحميل السفن الحربية الضخمة بالجنود لإرسالهم إلى قبرص قبل أن تصدر أوامر بتأجيل العملية في اللحظات الأخيرة، وهو ما خلق حالة من التململ في صفوفه وأرسلت قيادة الجيش رسالة قوية للقيادة السياسية تؤكد أن التأجيل المتكرر سيؤثر سلباً على استجابة الجيش لتنفيذ القرارات في المرات المقبلة، وكان هذا الأمر من الأسباب المهمة التي دفعت القيادة السياسية لإصدار الأمر النهائي بالتحرك العسكري.

وفي شرق الفرات، أصدرت القيادة السياسية التركية أكثر من مرة منذ سنوات أوامر للجيش بالاستعداد لتنفيذ عملية واسعة وبالفعل حشد الجيش قواته أكثر من مرة، ولم يتم تنفيذ العملية، وقبل أشهر قام الجيش بأكبر عملية تحشيد ونقل مئات الدبابات وعشرات آلاف الجنود مقابل شرق الفرات لكنه لم يُمنح الضوء الأخضر للتحرك، ومجدداً ومنذ أسابيع عاد الجيش لحشد قواته بقوة استعداداً لتنفيذ العملية المنتظرة، والتي ربما يكون أحد أسباب انطلاقها خشية القيادة السياسية من تململ الجيش من تكرار تأجيل العملية.

استنفاذ المحاولات:

في قبرص، لم تتحرك تركيا عسكرياً بشكل مباشر إلا بعدما استنفذت كافة الوسائل والمحاولات ومنها الضغوط الدبلوماسية

وطلب التحرك المشترك مع بريطانيا والولايات المتحدة لحماية القبارصة الأتراك، والحصول على دعم أممي لحماية القبارصة الأتراك، وتقديم الدعم العسكري لمجموعات المقاومة القبرصية التركية والتهديد المتكرر وغيرها من المحاولات التي استمرت لسنوات طويلة، دون الحصول على النتائج المرجوة.

وفي شرق الفرات، يبدو أن تركيا استنفذت معظم الوسائل والمحاولات أيضاً، فهي لم تحصل على أي دعم أممي لإقامة المنطقة الآمنة وتطهير الحدود من التنظيمات الإرهابية، في ظل إصرار أوروبي أمريكي على استمرار دعم الوحدات الكردية، وتضائل الآمال بالتوصل لاتفاق مع واشنطن حول المنطقة الآمنة في ظل التباعد الكبير في مواقف الطرفين.

المكاسب والخسائر:

في قبرص، تكبدت تركيا خسائر كبيرة أثناء العملية أبرزها مقتل قرابة 500 جندي، وعانت لسنوات من العقوبات الأوروبية والحظر الأمريكي والمصاعب الاقتصادية ولكنها نجحت في حماية القبارصة الأتراك وفرض أمر واقع يحمي نفوذها الاستراتيجي في قبرص حتى اليوم، وباتت العملية مفخرة في التاريخ التركي اجتمعت عليها جميع الأحزاب السياسية.

في شرق الفرات، تواجه تركيا نفس المخاطر، من حيث إمكانية تعرض الجيش لخسائر كبيرة في المعدات والأرواح، ومصاعب اقتصادية وعقوبات أوروبية، وخلافات حادة مع الولايات المتحدة، لكن الخطر الاستراتيجي الذي يمثله قيام ممر إرهابي على الحدود التركية يدفع المسؤولين الأتراك للخشية من دفع ثمن التأجيل، وكما قال أردوغان "إذا لم نقم بما هو ضروري في شمالي سوريا اليوم سندفع ثمناً غالياً فيما بعد"، وهو التخوف الذي قد يدفع تركيا بالفعل لاتخاذ قرار صعب بالتحرك بشكل واسع شرق الفرات ودفع ثمن ما حالياً على أن يكون الثمن أكبر من ذلك بكثير إذا تأجلت العملية أكثر من ذلك، كما تحدث أردوغان سابقاً عن استعداد بلاده لتحمل العقوبات المحتملة وذلك في سبيل حماية أمنها القومي.

المسوغ القانوني

في قبرص، ارتكزت العملية العسكرية التركية على مسوغ قانوني واضح يتعلق باتفاق "زيورخ" و"لندن" والذي يتيح للدول الثلاث الضامنة للوضع في قبرص (تركيا واليونان وبريطانيا) التدخل للعمل على استقرار قبرص، وانطلاقاً من هذه التفاهمات طلبت تركيا من بريطانيا رسمياً القيام بعملية مشتركة مع اليونان أيضاً لفرض السلام في قبرص، وعقب رفض اليونان المشاركة في المباحثات، ورفض بريطانيا للمقترح التركي، أطلقت تركيا "عملية السلام" لإحلال السلام في الجزيرة. كما أكدت تركيا في إعلانها عن "عملية السلام" أنها تهدف لحماية القبارصة الأتراك والروم أيضاً.

وفي شرق الفرات، تتسلح تركيا بالدرجة الأولى بالقانون الدولي الذي يتيح لها حق الدفاع المشروع عن حدودها ضد الهجمات المتواصلة للتنظيمات الإرهابية، كما تستند أيضاً إلى اتفاق أضنة مع نظام الأسد والذي يتيح للجيش التركي التحرك عسكرياً في الشريط الحدودي لمهاجمة التنظيمات الإرهابية وحماية الحدود، كما تقول أيضاً إنها تهدف من العملية لحماية كافة المركبات العرقية في سوريا وعلى رأسهم الأكراد أيضاً وهو نفس الخطاب المستخدم في التحضير لعملية قبرص.

وفي ظل عدم سيطرة نظام الأسد على حدوده، ورفض المجتمع الدولي التحرك بشكل مشترك، وفشل المباحثات بين أنقرة وواشنطن حول إقامة منطقة آمنة بشكل مشترك، تستعد تركيا للتحرك بشكل منفرد بما يتيحه لها القانون الدولي والاتفاقات الثنائية مع سوريا، وذلك لإنشاء "ممر السلام" بديلاً عن "الممر الإرهابي"، على غرار ما جرى في قبرص.

وبناءاً على كافة المعطيات السابقة، يبدو أن الوقت قد حان فعلاً لكي تخرج عائشة إلى عطلتها، حيث كانت كلمة السر لإطلاق الأمر العسكري ببدء "عملية السلام" في قبرص (لتخرج عائشة إلى عطلتها).

مشاركة على: