قناة إسطنبول ورقة ضغط تركية تضيعها المعارضة.. المشروع الأضخم على مستوى العالم
منذ أيام وتحديدا نهاية الشهر الماضي من العام الجاري، أعلنت تركيا الموافقة على المخطط النهائي لمشروع قناة إسطنبول، التي ستربط البحر الأسود شمال إسطنبول ببحر مرمرة جنوباً، ويبلغ طول القناة 45 كيلومتراً بعمق 20.75 متراً وعرض 360 متراً، لتستوعب القناة من خلال هذه الأبعاد ما يزيد على الـــ 160 سفينة في اليوم، ويعد المشروع رديفا لممر البسفور الذي يعاني ازدحما يوميا، ومن ثم يلبي الطلب الهائل للسفن الراغبة في المرور من البحر الأسود إلى بحر مرمرة ومن ثم إلى البحر المتوسط، فبحسب تقارير الملاحة الدولية فإن 53000 سفينة مدنية وعسكرية مرت في مضيق البسفور عام 2017 تشكل ناقلات النفط منها نسبة كبيرة، وهو ما يجعل البسفور أحد الممرات الهامة في العالم بل ويزيد أهميته عن قناة بنما والسويس التي مرت بها في نفس عام التقارير 12000 و 17000 على التوالي.
ولما كان المشروع هو الأضخم على مستوى العالم بحسب وزير البيئة التركي مراد كوروم، فإن تكلفة المشروع بنحو 75 مليار ليرة تركية، وتطمح الإدارة التركية إلى أن تكون القناة ليس فقط كممر مائي دولي، ولكن كقوة لوجستية تقدم خدماتها للتجارة البحرية العالمية، وعلى الرغم من أن الإدارة التركية أعلنت أنها ستتولى مسئولية التمويل، إلا أنه ومع الإعلان عن المخطط النهائي للقناة تهافتت الشركات للمساهمة في المشروع، ما رفع من أسهم شركات الاستثمار العقاري والبناء والتشييد وشركات الأسمنت في بورصة إسطنبول.
هل تقف اتفاقية مونترو عائقا أمام المشروع؟
سنة 1936 أبرمت اتفاقية مونترو لتنظم مرور السفن المدنية والحربية من البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط مرورا ببحر مرمرة مستخدمة مضيقي البوسفور والدردنيل، وتفرض الاتفاقية قيودا على السفن والأساطيل المارة إذا كانت من غير دول حوض البحر الأسود، سواء من حيث وقت الإقامة أو الحمولة، إلا أنها تسلب أيضا قدرة تركيا على التحكم في مرور السفن الحربية لدول البحر الأسود، ما لم تكن في حالة حرب، ما دون ذلك فإن تلك السفن تسرح عبر الممرات المائية التركية كما تشاء ووقتما تشاء، أما الدول خارج حوض البحر الأسود فعليها تقديم طلب قبل أسبوعين على الأقل للمرور إذا كانت السفن المارة عسكرية.
منذ أيام أصدر ما يزيد عن المئة عسكري تركي متقاعد بيانا يحذرون فيه من مشروع قناة إسطنبول ويؤلبون الضباط العاملين على المشروع وعلى الإدارة التركية ويطالبون بوقف المشروع متحججين بأنه خرق لاتفاقية مونترو، في موقف غريب لضباط من المفترض أن يكونوا أكثر حرصا على مصالح وطنهم وأكثر طموحا في مزيد من السيادة ومطالبة بالانعتاق من اتفاقيات كتبت في وقت كانت تركيا غير تركيا التي يعيشونها الآن.
أردوغان أكثر كمالية من الكماليين
بيان الضباط المتقاعدين ناشد الضباط العاملين التحرك من أجل حماية المبادئ الكمالية أو الأتاتوركية والحفاظ على مكتسبات مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، في حين حديث أتاتورك نفسه عن الاتفاقية في حينها كان مغايرا لما يدعيه الضباط المتقاعدين، حيث قال أتاتورك عن الاتفاقية: ( إبرام الاتفاقية "ليس خطوة رائعة، بل خطوة معقولة) إذن فإن أروغان أكثر كمالية من هؤلاء الذين يرون في اتفاقية مونترو ذروة ما يمكن ان تتحصله تركيا من ممراتها المائية، فإذا كان أتاتورك الذي وقع على الاتفاقية لم يكن في تمام رضاه عن الاتفاقية فالواجب على من يدعون إخلاصهم للجمهورية الكمالية أن يشكروا أردوغان على سعيه لتقديم شيء يرضي به من وقع الاتفاق تحت ضغط الظروف، وأصبح لزاما على أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، الذي وصف المشروع بأنه (ليس فقط مشروع خيانة بل مشروع قتل) أن يصمت للأبد، فالمشروع لن يقتل 16 مليون نسمة ( عدد سكان اسطنبول) ولن يهدد أمن 82 مليون (عدد مواطني تركيا) كما وصف، لكنها ستحمي تركيا من تنامي النشاط البحري والجوي لروسيا فوق البحر الأسود ومحيطه، ولعل تصاعد التوتر في أوكرانيا له تداعياته الأمنية على تركيا لو تفهم من يثير القلاقل ولا يدرك الأبعاد الاستراتيجية للسياسة.
قناة إسطنبول ورقة ضغط تركية
في الوقت الذي تبحث فيه الحكومات عن أوراق الضغط لتحسين أوضاعها الآنية أو تدخرها تحسبا لتغير المواقف السياسية، تقف المعارضة في تركيا حجر عثرة أمام واحدة من أهم الأوراق التي تسعى الإدارة التركية لامتلاكها خلال السنوات القادمة، هذه الورقة التي تصب في مصلحة بلد وليس نظام.
قناة إسطنبول إنجاز سيحسب بلا شك لحزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه الرئيس أردوغان، لكن الانظمة في النهاية راحلة، مهما طال الزمن، وتبقى الإنجازات كإضافة نوعية للوطن، لاسيما وإن كانت تلك الانجازات تصنف في خانة الإضافة الاستراتيجية لذلك البلد.
اتفاقية مونترو تنتقص إلى حد بعيد من سيادة تركيا على ممراتها المائية وتمنح طرف أفضلية كبيرة على تلك الممرات، وفي المقابل تحد من قدرات أطراف أخرى الراغبة في فرض سيطرة أو أخذ موقع متقدم تتمركز فيه أمام عدوها التقليدي، والحديث هنا بطبيعة الحال عن أمريكا التي تسعى إلى نقطة متقدمة باتجاه روسيا، فعلى الرغم من أنها استطاعت إسقاط الاتحاد السوفيتي، بل وسحب عدد ليس بالقليل من مكوناته إلى حلف ناتو، إلا أنها لا تستطيع بناء قواعد متقدمة باتجاه غريمها بسبب هذه الاتفاقية، لذا فإن البديل بالنسبة لها هو ذلك المشروع الذي لن يخضع بحال لقواعد الاتفاقية، وإن ظلت معضلة بناء قواعد متقدمة إشكالية، لكن القناة الجديدة تحلها وترفع الحرج عن حليفتها تركيا من التزامتها التي كانت محل عتاب في الماضي، لالتزامها بقواعد الاتفاقية، أثناء الحرب الباردة، وتبقى أهمية الممرات الاستراتيجية في إمكانية إطلاق الصواريخ البالستية من على السفن العابرة، ولعل أزمة شبه جزيرة القرم في 2014 تخيم الآن على أوكرانيا وأصدقائها في الغرب، في ظل تخوفات من تكرار السيناريو في دونباس، هذه التداعيات تجعل من قناة إسطنبول، المتحررة من قيود اتفاقية مونترو، ورقة ضغط لتركيا على طاولة التوازنات، وهو ما يؤكده الرئيس أردوغان بتصريحه أن إدارته لا تبحث في الوقت الحالي الخروج من الاتفاقية، وهو تصريح حمال أوجه، ويجعل الكل يطلب رضاه، فمن ناحية يهم امريكا أن تتحلل تركيا من قيودها ومن ثم تفك قيد أساطيلها الحالمة بالإبحار عبر المضايق لردع الدب الروسي المتربص.
موقف مريب للمعارضة من قناة إسطنبول
في ظل هذه المعطيات ومحاولات الإدارة خلق ورقة ضغط لبلد يسبح ضد التيارات لبناء منصة انطلاق توجه ضد من يريد لها أن تظل تابعة تستجدي الحماية كالغرب، أو ضعيفة لا تستطيع المواجهة، كروسيا وإيران، يصبح موقف المعارضة الشرس ضد مشروع قناة إسطنبول مستغرب، فمن ناحية يخوف الداخل، بإخافة الشعب من آثار منتظرة من المشروع على شاكلة النقص المحتمل في مياه الشرب، وتشريد سكان المنطقة التي ستمر منها القناة، والإضرار بالبيئة والغابات وصولا لنقص للأوكسجين! وما سيسببه المشروع من زلازل لأن المشروع يمر بالصدع الزلزالي الذي يمر عبر بحر مرمرة، ومن ناحية يستعدي الشرق بالتخويف من خرق اتفاقية مونترو وما سيترتب عليه من فقدان روسيا لمزاياها المحصلة من الاتفاقية، ويلعب لمصحة الغرب بمحاولة إبطال المشروع وما يحمله من أوراق ضغط عليه تريد الإدارة التركية الحالية امتلاكها للمناورة بها.
وهو الموقف الذي يمكن تفسيره على أنه إما مناكفة سياسية في حدود المراهقة ودون النضج، أو أن المعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري ينفذ أجندة تخدم في النهاية مصالح كل الأطراف إلا تركيا، وبين هذه وتلك تسير القافلة غير آبهة إلا بمصلحة وطن يريد المخلصون أن يكون في مكانة لن يرضى عنها الشرق أو الغرب ولا منفذي أجنداتهم.