“ غيبوبة الحماية ” .. صدمة تصيب طالبي اللجوء من الأطفال
“جورجي” لاجئ روسي جاء إلى السويد مع عائلته عندما كان في الخامسة من عمره، ويصفه طبيبه بأنه الأكثر انتماءً للسويد بين أفراد عائلته.
في عيد ميلاده الثالث عشر، قال صديقان له إنه يتمتع بالحيوية والنشاط، ويشعر بالسعادة طوال الوقت.
لكن في ديسمبر/ كانون الأول 2015، وبعدما قرأ “جورجي” على عائلته رسالة من “مجلس الهجرة” في السويد تبلغهم برفض الاستئناف النهائي الخاص بطلب لجوئهم المقدم منذ 2007، والتي جاء فيها: “يجب أن تغادروا السويد”، سقط الطفل أرضاً؛ إذ شعر بأن جسده أصبح كالسائل، وباتت أطرافه رخوة وغير قادره على حمله.
حينئذ، كل ما تمناه “جورجي” هو إغلاق عينيه والدخول في نوم عميق، رفض على إثره الخروج في اليوم التالي من السرير أو تناول الطعام؛ الذي تساقط من فمه عندما حاولت الأسرة إطعامه رغماً عنه.
تلك السطور جزء من تقرير نشرته مجلة “ذا نيو يوركر” الأمريكية”، الإثنين، لتسليط الضوء على “صدمة مواجهة الترحيل” وهو نوع من الصدمات أُصيب به عدد من المهاجرين إلى السويد، والذين تم رفض طلبات لجوئهم.
وبعد أسبوع من الدخول في حالة النوم، فقد “جورجي” قرابة 6 كيلوغرامات من وزنه، كما لم يتفوه بكلمة واحدة.
في ظل ذلك، كان نقل “جورجي” إلى المستشفى أمراً حتمياً، وهناك كشفت الفحوصات أن ردود أفعال الطفل سليمة، كما أن نبضه وضغط دمه عند المعدلات الطبيعية.
تلك الحالة التي لم تتغير حتى بعد توفير الرعاية الطبية إلى “جورجي” وإدخال أنبوب تغذية عبر فتحة أنفه، دفعت الأطباء إلى تشخيص حالته بأنها “متلازمة الترحيل”، وهو مرض بناء على تقرير “ذا نيو يوركر” موجود فقط في السويد، وفقط بين اللاجئين.
مرضى “متلازمة الترحيل” ليس لديهم أي مرض جسدي أو عصبي، لكن يبدو أنهم فقدوا الرغبة في الحياة، أو كما أوضحت “إليزابيث هولتكرانتز”، طبيبة الأنف والأذن والحنجرة، بأن هذه الغيبوبة شكل من أشكال الحماية.
“هولتكرانتز”، المتطوعة في منظمة “أطباء العالم” الخيرية، وصفت تلك الغيبوبة قائلة: “الذين يسقطون في هذه الغيبوبة مثل الشخصية الكارتونية سنو وايت (بياض الثلج)، يسقطون ليبقون بعيداً عن العالم الخارجي”.
مرت أشهر منذ استسلام “جورجي” لحالة النوم، قبل أن يفق من غيبوبته في 6 يونيو/ حزيران 2016، وتحديداً بعد أسبوعين من موافقة مجلس الهجرة السويدي على منح أسرة “جورجي” إقامة دائمة في السويد، لاحتياج هذا الطفل الروسي إلى بيئة آمنة ومستقرة وظروف معيشية تساعده على التعافي. في ذلك اليوم، فتح “جورجي” عينيه لأول مرة منذ أشهر.
وعن تلك اللحظة تقول “إيلينا زابولسكايا” جارة العائلة: “فتح الطفل عينيه قليلاً فقط، وسرعان ما أغلقها”، وهو ما فسره “جورجي” لاحقاً قائلاً: “الضوء كان مؤلماً للغاية، لكني أتذكر أنني رأيت عائلتي”.
في أحد دفاتر “جورجي” المدرسية، حرصت والدته على توثيق مراحل تطوره وخروجه من حالة الغيبوبة التي عاني منها قرابة 7 أشهر.
وذكرت الوالدة أن “جورجي” كان يتقدم بسرعة كبيرة، وكتبت: “بعد ثلاثة أيام من فتح عينيه، شرب بعض الماء بملعقة، وفي اليوم التالي أكل بعض المثلجات، وفي اليوم الثالث قام بتحريك يده، وفي الرابع حاول تحريك جسده”.
الأمان الذي استشعره “جورجي” بعد حصول أسرته على الإقامة الدائمة في السويد، جعله يعيد اكتساب خبراته واستجماع قدراته البدنية كغيره من الأطفال. إذ بدأ بفتح عينيه، ثم التواصل بالعين مع عائلته، فإطعام نفسه، وصولاً إلى السير، وأخيراً تكوين جملة كاملة.
الحياة داخل قفص زجاجي
“عندما أفكر في الأمر الآن، لا أعتقد أنني أردت القيام بذلك لاسيما عندما أفكر فيما شعرت به داخل القفص الزجاجي”، هكذا أجاب “جورجي” على “راشيل أفيف”، كاتبة تقرير “ذا نيو يوركر”، عندما حاولت سؤاله عما يشعر به حين يدرك أنه كان سبباً في حصول عائلته على الإقامة الدائمة في السويد.
يقول “جورجي” إنه في البداية كان يريد البقاء في السرير طول اليوم، كنوع من التنفيس عن غضبه لاجبار والديه على بذل المزيد من الجهد لإقناع الجهات المختصة بمنحهم الإقامة في السويد.
ويضيف أنه تساءل مستنكراً حينها: “لماذا كان علي الذهاب إلى المدرسة طالما لن أتمكن من البقاء في السويد والعمل فيها؟ لماذا أتعلم شيئاً إذا لم يكن له معنى في المستقبل؟”.
ويتابع: “السويد هي البلد الوحيد الذي أعرفه. البلد الوحيد الذي يمكنني أن أعيش فيه”.
تلك الحالة من الرفض تبعها شعور بالاستسلام التام كشخص تجذبه المياه إلى أسفل فيغرق، كانت تلك محاولة “جورجي” لوصف ما شعر به قبل أن يخلد إلى شهور النوم التي سقط فيها.
ويحكي ذلك الطفل الروسي تجربته مع “صدمة الترحيل”، قائلاً: “لا أجد كلمات تصف ما شعرت به حينها، كنت متعباً للغاية، جسدي بأكمله كان مثل الماء”.
“جورجي” لم يكن الطفل الوحيد في السويد الذ أصيب بـ”صدمة الترحيل”؛ فمنذ عام 2015 أصيب بالأعراض ذاتها أكثر من 400 طفل، معظمهم ما بين سن الثامنة عشرة والخامسة عشرة، حسب تقرير “ذا نيو يوركر”.
وتصف المجلة حالة المريض بتلك الصدمة بأنه “سلبي تماماً، وصامت، وساكن، وغير قادر على تناول الطعام أو الشراب، كما يعاني من سلاسة في البول، وعدم قدرة على الاستجابة إلى المؤثرات الجسدية”.
كما أن أغلب الأطفال الذين عانوا من هذه الصدمة، من المهاجرين الذي قدموا من الدول السوفيتية السابقة واليوغوسلافية، فضلاً عن عدد آخر غير قليل من روما والأويغور.
وفي رسالة مفتوحة إلى وزير الهجرة السويدي، حذر 42 طبيباً نفسياً من أن القيود الجديدة المفروضة على طالبي اللجوء، والوقت الذي يستغرقه مجلس الهجرة للبت في طلباتهم، قد يسفر في النهاية عن إصابتهم بهذه الصدمات.
واتهم هؤلاء الأطباء الحكومة السويدية بـ”إساءة معاملة الأطفال بشكل منهجي”، وأجمعوا على أن هذه “الصدمة أو المتلازمة” كانت رد فعل تجاه صدمتين: الأولى الإساءة التي عانى منها هؤلاء الأطفال في بلدانهم الأم، والثانية الفزع الذي أصابهم بعد التأقلم والاندماج في المجتمع السويدي.
من جهتها، أرجعت كاتبة تقرير “ذا نيو يوركر”، راشل أفيف، أسباب وجود حالات “صدمة الترحيل” في السويد تحديداً، إلى كون السويد واحدة من أفضل البلاد التي تتعامل مع اللاجئين.
يذكر أن السويد ملاذ للاجئين منذ السبعينات؛ إذ قبلت أكبر عدد من طالبي اللجوء مقارنًة بأي دولة أوروبية أخرى.
لكن هذا البلد الأوروبي، فرض مؤخراً تضييقاً على تعريف وطبيعة اللاجيء السياسي، وكثيراً ما تم حرمان الأسر التي تهرب من بلدان ليست في حالة حرب، من الحصول على اللجوء.
وذلك التضييق كان السبب في رفض مجلس الهجرة السويدي طلب اللجوء الذي قدمته أسرة الطفل “جورجي”.
ولولا سقوط الطفل في “متلازمة الترحيل” لكان الشهر الحالي (أبريل/ نيسان) هو المحدد لمغادرة الأسرة الأراضي السويدية.