
إنتاج الغاز الطبيعي يصل إلى أعلى مستوياته في 10 سنوات
شهد قطاع الطاقة العالمي خلال السنوات الأخيرة تطورات كبيرة، كان من أبرزها الزيادة الملحوظة في إنتاج الغاز الطبيعي، الذي أصبح المصدر الأكثر نموًا بين الوقود الأحفوري، مع تزايد الطلب العالمي عليه نتيجة التحول نحو مصادر طاقة أنظف مقارنة بالفحم والنفط. وفقًا لتقارير رسمية صادرة عن وكالات الطاقة الدولية، وصل إنتاج الغاز الطبيعي في عام 2024 إلى مستويات قياسية، حيث تجاوز إجمالي الإنتاج العالمي 4.3 تريليون متر مكعب، مسجلاً أعلى معدل له خلال العقد الماضي.
تأتي هذه الزيادة في وقت تتزايد فيه احتياجات العالم للطاقة، مع نمو السكان وزيادة النشاط الصناعي، لا سيما في الدول النامية والاقتصادات الصاعدة التي تعتمد على الغاز الطبيعي كمصدر رئيسي للطاقة الكهربائية والصناعية. ويُعتبر الغاز الطبيعي أحد العناصر الأساسية في منظومة الطاقة العالمية، نظرًا لانخفاض انبعاثاته مقارنة بالفحم والنفط، ولقدرته على توليد الطاقة بشكل مستدام نسبيًا.
من بين الدول الرائدة في إنتاج الغاز الطبيعي، تأتي الولايات المتحدة الأمريكية في الصدارة، حيث بلغ إنتاجها في عام 2024 نحو 1.07 تريليون متر مكعب، ما يمثل حوالي ربع الإنتاج العالمي، مما يعكس تطور البنية التحتية للغاز الصخري والتقنيات الحديثة في استخراج الغاز. تليها روسيا بإنتاج 660 مليار متر مكعب، ثم إيران وقطر، اللتان شهدتا زيادات ملحوظة في الإنتاج، لتعزز موقعهما كدول مصدرة للغاز على مستوى العالم.
أما الصين، فقد سجلت زيادة كبيرة في إنتاج الغاز الطبيعي خلال العقد الماضي، حيث ارتفع إنتاجها من 95 مليار متر مكعب في عام 2010 إلى 240 مليار متر مكعب في عام 2024، وهو ما يعكس الاهتمام الصيني المتزايد بالغاز الطبيعي كبديل أنظف للطاقة التقليدية في قطاعات الصناعة والتدفئة والطاقة الكهربائية. وفي الوقت نفسه، حققت أستراليا نموًا مذهلاً في إنتاج الغاز، بنسبة تقارب 300% خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، مدفوعة بالاستثمار الكبير في تقنيات استخراج الغاز من الفحم والغاز الصخري.
وتعد التكنولوجيا الحديثة أحد العوامل الأساسية في هذا النمو، حيث ساهمت تقنيات استخراج الغاز من الفحم (Coal Bed Methane) واستخدام الغاز الصخري في رفع حجم الإنتاج بشكل ملحوظ. ففي عام 2024، بلغ إنتاج الغاز من الفحم نحو 85 مليار متر مكعب، نصفه تقريبًا من أستراليا، بينما ارتفع إنتاج الغاز الصخري من 150 مليار متر مكعب في عام 2010 إلى 940 مليار متر مكعب في عام 2024، مع ما يقرب من 90% من هذا الإنتاج في الولايات المتحدة الأمريكية.

هذا النمو في إنتاج الغاز الطبيعي له تأثير كبير على أسواق الطاقة العالمية، حيث يساهم في استقرار الأسعار، ويزيد من تنوع مصادر الإمدادات، كما يخفف الاعتماد على النفط والفحم، وهو ما يعزز الأمن الطاقوي للدول المستهلكة. ويشير خبراء الطاقة إلى أن استمرار الاستثمار في استخراج الغاز الصخري والفحم، إلى جانب اكتشاف احتياطيات جديدة، سيؤدي إلى تعزيز دور الغاز الطبيعي كمصدر أساسي للطاقة في المستقبل القريب والمتوسط.
تشير التقديرات إلى أن الاحتياطيات العالمية المكتشفة من الغاز الطبيعي، والتي لم تُستغل بعد، تصل إلى نحو 40 تريليون متر مكعب، مما قد يضيف حوالي 1.3 تريليون متر مكعب من الإمدادات الجديدة بحلول عام 2050. ويعتبر هذا الرقم مؤشرًا قويًا على استمرارية توافر الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية، وضمان إمكانية تلبية الطلب المتزايد على الطاقة النظيفة في مختلف الدول.
ويؤكد المتخصصون أن إنتاج الغاز الطبيعي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنمو الاقتصادي العالمي، حيث تعتمد العديد من الصناعات على الغاز كمصدر للطاقة والمادة الخام. كما يساهم الغاز الطبيعي في تشغيل محطات توليد الكهرباء، وتحفيز النشاط الصناعي في مجالات مثل الصلب والأسمدة والبتروكيماويات. ومن ثم فإن زيادة الإنتاج تتيح فرصًا كبيرة لتوسيع نطاق الاستخدام الصناعي وتحفيز الاقتصاد العالمي.
على الصعيد الدولي، يساهم ارتفاع إنتاج الغاز الطبيعي في تعزيز التعاون بين الدول المنتجة والمصدرة، خاصة بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وقطر، حيث ترتبط أسعار الغاز الطبيعي بأسواق الطاقة العالمية، ويؤثر توازن الإنتاج على أسعار العقود الطويلة والقصيرة المدى. كما يشجع ارتفاع الإنتاج على استثمارات جديدة في شبكات النقل والتخزين، بما يشمل خطوط الأنابيب ومحطات التسييل والنقل البحري، لتعزيز القدرة على تلبية الطلب العالمي المتزايد.
وعلاوة على ذلك، فإن الغاز الطبيعي يُعد أحد الأدوات المهمة لتحقيق أهداف التحول البيئي والطاقة النظيفة، حيث يقلل الاعتماد على الفحم والنفط، ويخفض من الانبعاثات الكربونية. وقد دفعت هذه المعطيات الدول إلى دعم برامج استثمارية في مجال الغاز الطبيعي، سواء عبر اكتشاف حقول جديدة أو تطوير تقنيات استخراج أكثر كفاءة وأمانًا.
ويشير الخبراء إلى أن الطلب العالمي على الغاز الطبيعي سيستمر في النمو خلال العقد القادم، مدفوعًا بزيادة استخدام الغاز لتوليد الكهرباء، وتحلية المياه، وإنتاج البتروكيماويات، وهو ما يتطلب استمرار الاستثمار في البنية التحتية للغاز، وتطوير شبكات التوزيع، وضمان تأمين المخزون الاستراتيجي للدول.

في الولايات المتحدة، ساهم الغاز الصخري في تحقيق الاكتفاء الذاتي تقريبًا في إنتاج الطاقة، وأدى إلى انخفاض الأسعار المحلية للكهرباء، مما انعكس إيجابًا على الصناعات الأمريكية. وفي روسيا، يمثل الغاز الطبيعي أحد أهم مصادر الدخل القومي، حيث تعتمد صادرات الغاز على أوروبا وآسيا، بينما تعمل الصين على زيادة إنتاجها الداخلي لتلبية الطلب المحلي المتزايد.
أما في الشرق الأوسط، فإن الدول مثل قطر وإيران تعتمد على الغاز الطبيعي في دعم اقتصاداتها وتحقيق نمو مستدام، كما تعمل على تصدير الغاز إلى الأسواق العالمية عبر خطوط الأنابيب ومحطات التسييل، لتعزيز دورها كمورد رئيسي للطاقة. وفي أستراليا، أدى الاستثمار في الغاز الصخري والفحم إلى تعزيز الاقتصاد المحلي، وتوفير فرص عمل، وزيادة صادرات الغاز المسال إلى آسيا وأوروبا.
تشير التحليلات إلى أن الابتكارات التقنية الحديثة، بما في ذلك تحسين عمليات الحفر والتكسير الهيدروليكي، وتطوير تقنيات استغلال الغاز من الفحم والصخور الزيتية، أسهمت بشكل مباشر في رفع معدلات الإنتاج، وتحسين كفاءة استغلال الاحتياطيات، وتقليل التكاليف التشغيلية. كما ساعدت هذه التقنيات في الحد من التأثير البيئي لاستخراج الغاز الطبيعي، بما يتوافق مع معايير الاستدامة الدولية.
وعلى الرغم من النمو الكبير في الإنتاج، يواجه قطاع الغاز الطبيعي تحديات عدة، تشمل تقلب الأسعار في الأسواق العالمية، والمنافسة بين مصادر الطاقة المختلفة، والضغط الدولي نحو تقليل الانبعاثات الكربونية، بالإضافة إلى الحاجة للاستثمار المستمر في البنية التحتية وتحديث خطوط النقل والتخزين.
إجمالاً، يمثل ارتفاع إنتاج الغاز الطبيعي في العقد الأخير إنجازًا اقتصاديًا وتقنيًا كبيرًا، يعزز أمن الطاقة العالمي، ويوفر فرصًا للنمو الاقتصادي، ويدعم جهود التحول نحو طاقة أنظف وأكثر استدامة. ويُعد الغاز الطبيعي أحد الأعمدة الأساسية في منظومة الطاقة العالمية المستقبلية، حيث يلعب دورًا رئيسيًا في تحقيق التوازن بين الطلب المتزايد على الطاقة والحاجة إلى تقليل التأثير البيئي.