آيا صوفيا.. من كاتدرائية بيزنطية إلى درة المساجد في إسطنبول

آيا صوفيا.. من كاتدرائية بيزنطية إلى درة المساجد في إسطنبول
آيا صوفيا.. من كاتدرائية بيزنطية إلى درة المساجد في إسطنبول

آيا صوفيا.. من كاتدرائية بيزنطية إلى درة المساجد في إسطنبول

في قلب مدينة إسطنبول، حيث تتعانق المآذن مع البحر ويختلط صدى الأذان بنسيم البوسفور، تقف آيا صوفيا شامخة كأنها تتحدى الزمن، تحمل على جدرانها قصة إنسانية تجمع بين الدين والفن والسياسة، وتروي فصولًا متعاقبة من تاريخ حضاراتٍ مرّت من هنا وتركت بصمتها في حجرها وقبتها ومآذنها.

ليست آيا صوفيا مجرد مبنى عتيق، بل رمزٌ خالد يجسد كيف يمكن لمكانٍ واحد أن يكون مرآةً لعصورٍ كاملة، وأن يجمع في داخله مزيجًا من الإيمان والجمال والتاريخ.


من فكرة إلى أسطورة

يعود تاريخ إنشاء آيا صوفيا إلى عام 532 ميلاديًا، حين أمر الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول ببنائها بعد أن دُمّرت الكنيسة السابقة في اضطرابات نيقية الشهيرة. أراد جستنيان أن يشيد صرحًا يفوق كل ما بناه الإنسان في عصره، فاختار له موقعًا يتوسط القسطنطينية القديمة، العاصمة السياسية والروحية للإمبراطورية البيزنطية.

استعان الإمبراطور بأبرز مهندسي عصره، إيسيدوروس من ميليتوس وأنثيميوس من ترالّس، ليضعا تصميمًا لم يشهد له التاريخ مثيلًا من قبل. وبعد خمس سنوات فقط، افتُتحت آيا صوفيا رسميًا في 27 ديسمبر 537م، في احتفال ضخم حضره الإمبراطور ورجال الدولة وكبار رجال الدين. ويُروى أن جستنيان، عند دخوله المبنى للمرة الأولى، صاح مفتخرًا:

“يا سليمان، قد تفوقت عليك!”
في إشارة إلى هيكل سليمان في القدس، الذي كان يُعد أعظم مبنى ديني في التاريخ آنذاك.


تحفة هندسية لا مثيل لها

ما يميز آيا صوفيا ليس فقط حجمها المهيب، بل جرأة تصميمها الهندسي. ترتفع القبة المركزية إلى أكثر من 55 مترًا عن الأرض، ويبلغ قطرها نحو 31 مترًا، وتبدو وكأنها معلّقة في الهواء دون أعمدة واضحة. هذا الإبداع في البناء جعلها تُلقّب بـ “معجزة العمارة البيزنطية”.

استُخدم في بنائها رخام أبيض من الأناضول، وأعمدة من مصر واليونان وسوريا، وفسيفساء مذهلة مصنوعة من الذهب والزجاج والأحجار الكريمة، مما جعلها تبدو كأنها تضيء من الداخل بنورٍ سماوي.

وكانت آيا صوفيا، على مدى ما يقارب تسعة قرون، المركز الرئيسي للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، ومقرًّا لتتويج الأباطرة البيزنطيين. كل إمبراطور كان يمر من بابٍ خاص يسمى “الباب الإمبراطوري”، قبل أن يعتلي العرش وسط طقوس مهيبة.


الفتح العثماني وتحول الهوية

في 29 مايو 1453م، سقطت القسطنطينية بعد حصار طويل قاده السلطان الشاب محمد الفاتح، فاتح المدينة التي لم تُفتح من قبل. دخل الفاتح المدينة بخشوع، واتجه مباشرة إلى آيا صوفيا، ليؤدي فيها صلاة النصر، معلنًا تحويلها إلى مسجد.

ولم يكن القرار مجرد تحويل ديني، بل رمزًا للتحول الحضاري؛ إذ جعل من آيا صوفيا جسرًا بين ماضي بيزنطي مسيحي وحاضرٍ عثماني إسلامي.
أُضيفت المآذن الأربع تباعًا، ورُسمت الآيات القرآنية على الجدران بخط الثلث العثماني، وعلّقت الدوائر الخضراء الضخمة التي تحمل أسماء الله والنبي محمد ﷺ والخلفاء الراشدين.

ولم تُهمل الفسيفساء المسيحية، بل تم تغطيتها بطرق تحفظها من التلف احترامًا لطبيعتها الفنية. وهكذا، وُلدت آيا صوفيا من جديد، مسجدًا جامعًا للفنّين المسيحي والإسلامي، ومثالًا نادرًا على التعايش الثقافي في العمارة الدينية.


آيا صوفيا في عهد الدولة العثمانية

على مدى قرون من الحكم العثماني، حظيت آيا صوفيا بعناية فائقة من السلاطين.
فقد أمر السلطان سليم الثاني بإجراء أول عملية ترميم كبرى في القرن السادس عشر، نفذها المعماري العبقري سنان باشا، الذي دعم القبة من الخارج لمنع تصدّعها. كما أنشأ السلطان مراد الثالث مدرسة دينية ومكتبة بجوار المسجد، وأضيفت المآذن الأربع لتشكل منظومة متناسقة تُرى من كل أرجاء المدينة.

أصبحت آيا صوفيا المسجد الأم في العاصمة العثمانية، تُقام فيها صلاة الجمعة الكبرى، وتُلقى فيها خطب السلاطين، وتُعقد حولها الدروس الدينية، حتى غدت رمزًا للهيبة والسيادة الإسلامية.


من مسجد إلى متحف

مع تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، بدأ عهد جديد غيّر وجه البلاد ومؤسساتها. وفي عام 1934، صدر قرار من مجلس الوزراء التركي بتحويل آيا صوفيا إلى متحف، في خطوة فُسّرت على أنها رغبة في فصل الرموز الدينية عن الدولة الحديثة.

أُغلقت المآذن، وأُزيلت السجاد، وكُشفت الفسيفساء المسيحية التي ظلت مخفية لقرون.
تحوّل المكان إلى موقع أثري وثقافي يجذب ملايين الزوار من أنحاء العالم، وأدرجته منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي عام 1985، تقديرًا لقيمته المعمارية والتاريخية الفريدة.

لكن رغم ذلك، ظلّ في قلوب الأتراك والعالم الإسلامي شعور خاص تجاه هذا المكان. فآيا صوفيا لم تكن مجرد مبنى أثري، بل رمزًا روحيًا متجذرًا في الذاكرة الجماعية للشعب التركي.


العودة إلى الهوية الأصلية

في 10 يوليو 2020، وبعد 86 عامًا من تحويلها إلى متحف، صدر قرار من المحكمة الإدارية العليا في تركيا يقضي بإلغاء وضعها كمتحف، وإعادتها إلى مسجدٍ مفتوح للعبادة.
وفي اليوم نفسه، وقّع الرئيس رجب طيب أردوغان مرسومًا رئاسيًا بتحويل آيا صوفيا رسميًا إلى مسجد، معلنًا إقامة أول صلاة جمعة فيها في 24 يوليو 2020.

وشهدت إسطنبول يومها مشهدًا مهيبًا؛ مئات الآلاف من المصلين احتشدوا في الساحات المحيطة، ودموع الفرح امتزجت بأصوات الأذان التي ارتفعت من مآذن آيا صوفيا للمرة الأولى منذ عقود طويلة.

قال الرئيس أردوغان في كلمته آنذاك:

"عودة آيا صوفيا إلى المسجد هي خطوة لإحياء إرثنا التاريخي، واستعادة رمز من رموز سيادتنا الوطنية".

ومنذ ذلك الحين، أصبحت آيا صوفيا مسجدًا مفتوحًا للعبادة، وفي الوقت نفسه موقعًا ثقافيًا يمكن للزائرين دخوله خارج أوقات الصلاة، لتبقى ملتقى بين الإيمان والفن والتاريخ.


معمار لا يشيخ

من يدخل آيا صوفيا اليوم، يندهش من مدى انسجام العناصر القديمة والجديدة.
القبة الضخمة ما تزال تهيمن على الفضاء الداخلي، تسبح فيها الإضاءة الطبيعية عبر 40 نافذة مرتبة حولها بطريقة تجعل النور ينهمر كأنه من السماء.
الأعمدة الرخامية الضخمة تتلألأ بألوان رمادية وخضراء، والجدران ما تزال تحمل بقايا الفسيفساء الذهبية التي تروي مشاهد من التاريخ المسيحي القديم، بينما تزينها في الوقت نفسه آيات من القرآن الكريم.

هذا التوازن المدهش بين الرموز والأنماط جعل من آيا صوفيا نموذجًا فريدًا لتعايش الفن الإنساني، حيث تلتقي الرمزية الدينية بالخيال المعماري في لوحة لا تتكرر.


الرمزية والهوية الثقافية

لا يمكن الحديث عن إسطنبول دون ذكر آيا صوفيا. فهي تمثل ذاكرة المدينة وروحها العميقة.
كل حجر فيها يحكي فصلًا من تاريخ طويل — من إمبراطوريات قامت وسقطت، إلى ملوك وسلاطين ومهندسين تركوا بصمتهم في هذه التحفة.

لكن الأهم من ذلك أن آيا صوفيا تعكس قصة هوية تركيا الحديثة؛ بلدٌ حافظ على ماضيه، ونجح في دمجه بحاضره.
فيها تتجلى فكرة "الوحدة في التنوع" — حيث تتلاقى المآذن الإسلامية مع القباب البيزنطية في انسجام تام، وكأنها تقول للعالم:

"قد تتغير العصور، لكن الجمال والإيمان لا يفقدان بريقهما."


آيا صوفيا والسياحة العالمية

اليوم، تُعد آيا صوفيا من أكثر الأماكن زيارة في تركيا والعالم.
تستقبل ملايين السياح سنويًا، من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، يقفون مبهورين أمام عظمة البناء وتاريخه العريق.
يُسمح لغير المسلمين بزيارتها خارج أوقات الصلاة، فيدخل الزائر ليشهد لوحة متكاملة من التاريخ الإنساني، حيث تتجاور الرموز وتتحاور الثقافات في صمت مهيب.

وتحرص السلطات التركية على الحفاظ على توازن دقيق بين قدسيتها الدينية وقيمتها الأثرية، عبر برامج ترميم وصيانة مستمرة تهدف إلى حماية الجدران والفسيفساء من تأثير الزمن والازدحام.


رسالة إلى العالم

آيا صوفيا اليوم ليست فقط مسجدًا في قلب إسطنبول، بل رمزٌ عالميّ للتعايش، ومثالٌ على أن التاريخ يمكن أن يكون مساحة للحوار لا للصراع.
هي دعوة مفتوحة لكل من يزور تركيا ليقرأ صفحات من تاريخ الإنسانية مكتوبة بالحجر والضوء.

عندما يرفع الأذان من مآذنها، يختلط الماضي بالحاضر في مشهدٍ واحدٍ مهيب، يذكّر العالم بأن الحضارات لا تفنى، بل تتطور، وأن الروح التي بنت آيا صوفيا قبل خمسة عشر قرنًا ما تزال حيّة تنبض حتى اليوم.


خاتمة

منذ عام 537م وحتى اليوم، ظلت آيا صوفيا رمزًا للعظمة الروحية والفنية، وكتابًا مفتوحًا يروي تاريخ الإنسانية بلغاتٍ متعددة.
هي صرحٌ جمع بين الكنيسة والمسجد والمتحف، وبين الشرق والغرب، بين الفن والإيمان، وبين الماضي والحاضر.
وحين تنظر إليها من بعيد، ترى إسطنبول كلّها فيها — مدينة تعيش على ضفاف التاريخ، وتنظر بثقة نحو المستقبل.

مشاركة على: