المساجد العربية في إسطنبول.. تاريخ وحضور متجدد
إسطنبول... مدينة المساجد والتاريخ
تُعد إسطنبول من أكثر مدن العالم ثراءً بالمساجد التاريخية التي تحمل ملامح قرون من الحضارة الإسلامية، وتروي قصص الفتوحات والهجرات والتبادل الثقافي بين العرب والأتراك. ومع أن المدينة تحتضن نحو تسعين ألف مسجد في عموم تركيا، فإن بعض هذه المساجد يحمل طابعًا عربيًا خالصًا في تاريخه أو في جمهوره من المصلين، ما يجعلها شواهد حية على حضور عربي متجدد في قلب المدينة.
من بين تلك المساجد يبرز مسجد العرب في غلطة (Arap Camii) الذي يُعدّ أقدم المساجد ذات الجذور العربية في إسطنبول، إلى جانب مسجد السلطان أيوب الأنصاري الذي يرتبط بعمق الوجدان العربي والإسلامي، ومسجد الفاتح الذي يجمع حوله مصلين من مختلف الجنسيات بينهم آلاف العرب المقيمين في المدينة. هذه المساجد الثلاثة تشكل اليوم جسورًا تربط بين العرب وتركيا عبر التاريخ والدين والثقافة.
مسجد العرب في غلطة.. من كنيسة لاتينية إلى مئذنة عربية
يقع مسجد العرب في حيّ غلطة ضمن منطقة بيوغلو في إسطنبول الأوروبية، وهو واحد من أقدم وأندر المباني الدينية التي نجت من تقلبات العصور. تعود جذور المبنى إلى عام 1325 تقريبًا حين شُيّدت كنيسة على الطراز القوطي الدومينيكاني قبل أن تتحول إلى مسجد بعد الفتح العثماني.
تُشير بعض الروايات إلى أن المكان الأصلي بُني أول مرة في القرن الثامن الميلادي أثناء حصار العرب للقسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك، لكن الشكل المعماري الحالي أُعيد استخدامه لاحقًا بعد الفتح، وتم تخصيصه لجماعات العرب الوافدين إلى إسطنبول بعد سقوط الأندلس عام 1492، ومن هنا جاء اسمه «مسجد العرب».
يتميّز المسجد بتصميم فريد يختلف عن الطراز العثماني المعروف، إذ يحتفظ ببرج كنيسة تحول إلى مئذنة مربعة الشكل، وبنوافذ طويلة وأقواس قوطية، وسقف خشبي بسيط لا يشبه القباب التقليدية في المساجد الأخرى. هذا المزيج بين اللاتيني والعثماني يمنحه طابعًا معماريًا فريدًا لا يوجد مثيل له في إسطنبول.
على مرّ القرون، أصبح المسجد ملاذًا للجالية العربية، سواء من المهاجرين القدامى أو المقيمين الجدد من بلاد الشام والعراق واليمن ومصر. فهنا يجد العرب في إسطنبول مكانًا تعبق فيه رائحة التاريخ الإسلامي والعروبة في قلب المدينة التركية. كما يُعدّ المسجد محطة مهمة للباحثين في تاريخ الوجود العربي في الأناضول.
واليوم، لا يزال مسجد العرب مقصدًا للزوار والسياح العرب والأجانب، الذين يأتون لاستكشاف هذه البقعة التاريخية التي تجمع بين جذور مسيحية قديمة وحضور إسلامي ممتد منذ خمسة قرون. وقد أُجريت عليه أعمال ترميم عديدة بعد زلزال 1999 الذي كشف بعض الرسومات القديمة المخبأة تحت طبقات الجدران.

مسجد السلطان أيوب الأنصاري.. الرمز الروحي الأعمق للعرب
لا يمكن الحديث عن المساجد ذات الحضور العربي في إسطنبول دون ذكر مسجد السلطان أيوب الأنصاري، أحد أبرز وأقدس المساجد في تركيا، الذي يقع على الضفة الأوروبية من القرن الذهبي. يرتبط المسجد باسم الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، حامل لواء النبي ﷺ، الذي استُشهد أثناء حصار القسطنطينية في القرن السابع الميلادي.
تم بناء المسجد في عام 1458 بأمر السلطان محمد الفاتح، ليكون أول مسجد يُشيّد بعد الفتح العثماني، في المكان الذي يُعتقد أنه دُفن فيه الصحابي. ومنذ ذلك الحين أصبح المكان مزارًا ومركزًا دينيًا مهمًا، يقصده المسلمون من كل أنحاء العالم، وخصوصًا العرب الذين يشعرون بارتباط روحي وتاريخي خاص بالموقع.
يتميز مسجد أيوب بطراز معماري عثماني كلاسيكي مهيب، تعلوه قبة ضخمة تحيط بها أربع مآذن رشيقة. وتحيط به باحة مزدانة بأشجار السرو والرخام الأبيض، تتوسطها نافورة وضريح مهيب مزخرف بالكتابات العربية والعثمانية. هذا المزيج من القداسة والجمال يجعله من أكثر المساجد وقارًا في إسطنبول.
بالنسبة للعرب المقيمين أو الزائرين، يُعدّ مسجد أيوب وجهة مفضلة يوم الجمعة أو خلال الأعياد الدينية، حيث تُقام الصلوات والدروس الدينية باللغتين التركية والعربية، ويُسمع الدعاء بصوت الأئمة القادمين من بلدان عربية متعددة. كما تنشط حول المسجد محال لبيع الكتب الإسلامية والهدايا العربية، مما يعزز طابعه الثقافي العربي.
ولأن أيوب الأنصاري من الصحابة الذين نزلوا على رسول الله ﷺ في المدينة المنورة، فإن الكثير من الزائرين العرب يشعرون بأن زيارتهم له في إسطنبول تُعيدهم إلى جذورهم الروحية الأولى، وكأنهم يزورون صديقًا للنبي على أرضٍ بعيدة امتزجت فيها دماء العرب بالأتراك.

مسجد الفاتح.. القلب النابض للجالية العربية في إسطنبول الحديثة
أما مسجد الفاتح، فيُعد من أكبر وأهم المساجد العثمانية في إسطنبول، وهو أيضًا من أبرز أماكن تجمع العرب المقيمين في المدينة. بُني المسجد بين عامي 1463 و1470 على يد السلطان محمد الفاتح، في موقع كنيسة بيزنطية قديمة، ليكون بمثابة القلب الديني والعلمي للدولة العثمانية الوليدة.
يضم المسجد مجمعًا متكاملًا يشمل مدارس شرعية، ومكتبات، وأضرحة للعلماء والفقهاء، إضافة إلى سوق صغير في محيطه. وفي العقود الأخيرة، تحول مسجد الفاتح إلى نقطة تلاقي للجالية العربية الكبيرة التي استقرت في إسطنبول بعد موجات الهجرة من سوريا والعراق واليمن ومصر والسودان وليبيا وغيرها.
تُقام في المسجد خطب الجمعة بلغات متعددة، وغالبًا ما تتضمن ترجمة فورية إلى العربية، بينما تُنظّم دروس دينية ودورات لحفظ القرآن الكريم للأطفال والنساء العربيات. كما يلتقي فيه طلبة العلم من مختلف الدول العربية في حلقات علمية بإشراف أئمة من الأزهر ومن معاهد إسلامية تركية.
حول المسجد، تنتشر المطاعم والمقاهي العربية، ومتاجر الكتب التي تبيع مؤلفات عربية وإسلامية، ما يجعل المنطقة تبدو وكأنها “الحي العربي” في قلب إسطنبول. ولا يمر يوم جمعة إلا وترى الجموع من العرب تتقاطر إلى الفاتح، حيث يجدون فيه روحًا تشبه أحياء دمشق القديمة أو القاهرة الإسلامية.
ويُلاحظ أن السلطات التركية تُولي اهتمامًا خاصًا بالمسجد نظرًا لدوره الديني والتاريخي والاجتماعي، إذ يُعد أحد رموز الفتح العثماني، وفي الوقت نفسه مركزًا للتواصل بين الثقافتين العربية والتركية في الحاضر.

مسجد السليمانية.. تاج العمارة الإسلامية وملتقى الشعوب
على ربوة مطلة على القرن الذهبي، يتربع مسجد السليمانية الذي شيّده السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر، بإبداع المهندس المعماري الشهير سنان باشا. يُعد المسجد من أعظم روائع العمارة الإسلامية في العالم، ويجمع في بنائه بين القوة والسكينة والجمال الهندسي المذهل.
يضمّ المسجد مجمعًا متكاملًا يشمل مدارس ومكتبة ومستشفى وأماكن إقامة للطلاب، ما يجعله رمزًا لعصر النهضة العثمانية. لكن ما يميزه في العصر الحديث هو تحوّله إلى مقصد روحي وعلمي للعرب المقيمين والزائرين في إسطنبول.
يُعدّ السليمانية من أكثر المساجد التي يُقام فيها دروس دينية باللغة العربية لطلبة العلم، ويستضيف مؤتمرات قرآنية بمشاركة علماء من الأزهر الشريف ومن المراكز الإسلامية في بلاد الشام وشمال أفريقيا. كما تُقام فيه خطب عربية في المناسبات، خصوصًا في شهر رمضان، ما يجعله مركزًا للثقافة الإسلامية العابرة للحدود.
جمال المسجد لا يقتصر على هندسته، بل يمتد إلى موقعه المطل على المدينة القديمة والبوسفور، حيث يلتقي الزوار من كل جنسية ليشهدوا صلاة المغرب في مشهد يختصر وحدة المسلمين رغم اختلاف ألسنتهم.
يُعتبر السليمانية أحد المساجد التي تجذب العرب من المثقفين والباحثين في العمارة الإسلامية، إذ يرمز إلى التوازن بين الفن والإيمان، ويجسّد مرحلة ازدهارٍ كانت فيها إسطنبول عاصمة للعالم الإسلامي بأسره.

رمزية المساجد العربية في الذاكرة التركية
إن وجود هذه المساجد الثلاثة في إسطنبول لا يُمثّل مجرد تراثًا معماريًا فحسب، بل يعكس التفاعل التاريخي بين العرب والأتراك منذ قرون. فمسجد العرب هو شاهد على البدايات الأولى للعلاقات العربية العثمانية، ومسجد السلطان أيوب الأنصاري يرمز إلى الروابط الروحية العميقة، فيما يُجسّد مسجد الفاتح الامتزاج الثقافي الحديث الذي يجمع المهاجرين العرب وسكان المدينة الأتراك.
تُظهر هذه المساجد كيف أن إسطنبول كانت وما زالت مدينة تجمع الأجناس والثقافات في رحاب الإسلام، حيث تتجاور المآذن القديمة مع أصوات المؤذنين العرب، وتلتقي الجاليات المختلفة في صلاة واحدة تُوحّدهم تحت راية الدين واللغة المشتركة.
حضور لا يغيب
اليوم، ومع تزايد أعداد العرب المقيمين في تركيا، عادت هذه المساجد لتعيش نهضة جديدة. فهي ليست فقط أماكن عبادة، بل مراكز تواصل ثقافي واجتماعي. فالأئمة يتحدثون بالعربية والتركية، والخطب تُترجم للزائرين، والدروس تجمع أبناء الجاليات المختلفة في مشهد يعيد للأذهان أجواء المدن الإسلامية الكبرى في العصور الذهبية.
ومع استمرار الاهتمام الرسمي والشعبي بترميم وصيانة هذه المساجد، تظل إسطنبول مدينة لا تكتمل صورتها إلا بمآذنها التي تعانق السماء، وبحضورها العربي الذي يضفي عليها عمقًا إنسانيًا وروحيًا متجددًا.