جحيم إدلب.. هل تآمرت تركيا حقا على السوريين؟
تشكل محافظة إدلب مع ريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي وجزء صغير من ريف اللاذقية الشمالي منطقة خفض تصعيد وفقا لاتفاق تم توقيعه في سبتمبر أيلول من العام 2017 بين كل من تركيا وروسيا وإيران، في العاصمة الكازاخية استأنه (نور سلطان حاليا). وفي سبتمبر/أيلول من العام 2018، أبرمت كل من تركيا وروسيا اتفاق "سوتشي" بهدف تثبيت وقف إطلاق النار في منطقة «خفض التصعيد» تلك. وفقا لهذا الاتفاق قامت المعارضة السورية بسحب أسلحتها الثقيلة من المنطقة التي شملها الاتفاق في شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام. ساد الهدوء الحذر منطقة خفض التصعيد من وجود خروقات متفرقة على مدار الشهور الماضية قبل أن تنفجر الأمور من جديد في حملة شرسة بدأها النظام مع حلفائه الروس والإيرانيين على إدلب ومحيطها قبل عدة أيام وخلفت مئات القتلى والجرحى وعشرات آلاف المشردين في العراء ناهيك عن الدمار الهائل.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا متعلق بشكل أساسي بالموقف التركي الذي يبدو غير مفهوم لكثير من السوريين. فبينما تتوالى الصور والمشاهد القاسية والغير إنسانية من إدلب، تبدو تركيا، بوصفها أحد الضامنين لاتفاقيات وقف التصعيد في إدلب، متراخية في الوقوف أمام هذا الهجوم الشرس. فما هي خلفيات الموقف التركي من الهجوم على إدلب وهل حقا باعت تركيا السوريين هناك مقابل صفقات أخرى؟ ولماذا تحركت روسيا في إدلب في هذا التوقيت؟
في الحقيقة، بعد توقيع اتفاق سوتشي الروسي التركي، لم يكن عسيرا على أي مراقب لمجريات الصراع في سوريا وما افرزه من توازنات دولية وإقليمية معقدة من أن يتنبأ بأن الاستقرار في إدلب لن يكون طويل الأمد وبأن المحافظة ستعود إلى واجهة العنف مجددا في وقت ليس بالبعيد. هذا بالضبط ما أشرنا اليه في مقالتنا المنشورة بتاريخ الخامس والعشرين من شهر سبتمبر أيلول الماضي تحت عنوان "اتفاقية ادلب...استراحة محارب أم مقدمة لعودة الاستقرار؟".
قلنا وقتها أن الاتفاق الروسي التركي في إدلب لن يرسم خطوطا مستدامة لحدود الصراع على سوريا. فبينما يكمن عامل التثبيت الأقوى وشبه الوحيد في الإرادة التركية التي تستهدف الحفاظ على هذا الاتفاق، إلا أنه لدينا مجموعة متكاملة من العوامل والظروف التي يمكن أن تؤدي إلى انهياره في أي وقت.
فالروس ليسوا أهلا للثقة في الحفاظ على تعهداتهم والتزاماتهم من جانب. كما أنهم بارعون للغاية في اختلاق الذرائع حال أرادوا تغيير موقفهم. أضف إلى ذلك عدم وضوح معالم الصفقة، أو بصيغة أدق، الثمن الذي دفعه الأتراك للروس ليقتنصوا منهم اتفاق سوتشي في الوقت الذي كانت فيه جحافل النظام وحلفائه تتجهز لاقتحام إدلب اسوة ببقية المحافظات السورية. هذا الغموض، إضافة إلى عدم وجود أي شيء ينبئ بوجود اتفاق متكافئ بين البلدين، يجعنا نرجح افتراض أن روسيا اختارت تأجيل المعركة في ذلك الوقت مرحليا بسبب تهديدات غربية وخاصة أمريكية محذرة من اقتحام ادلب، فقامت وقتها بالاستجابة للرغبة التركية بتجنب اقتحام إدلب وذلك لتحقيق مكاسب تكتيكية في جذب انقرة إلى جانبها وربما قبض ثمن ذلك.
أضف إلى كل ذلك بأن تركيا لا تمثل مركز قوة كبيرة في سياق الحالة السورية على الرغم من تواجدها العسكري في بعض المناطق. فالوجود التركي إنما كان نتيجة لاتفاقيات تم توقيعها مع روسيا التي تمثل فعليا مركز الثقل الرئيسي على الأرض السورية. لولا هذه الاتفاقيات ما كانت تركيا تستطيع أن تتدخل عسكريا في سوريا، لا في درع الفرات ولا في غصن الزيتون. كذلك لم تكن تركيا قادرة عسكريا على حماية إدلب لو لم تقتنص دبلوماسيا اتفاقية سوتشي من الروس، هذه الاتفاقية التي يبدو لنا بان الظروف الدولية وقتها إضافة إلى الإصرار التركي الكبير لعبا دورا كبيرا في تمريرها لدى الروس.
لماذا تحرك الروس في إدلب؟
نعتقد بأن التحرك العسكري الروسي السوري الأخير في إدلب جاء كنتيجة لانزعاج روسيا بسبب فشل النسخة الثانية عشرة من محادثات استانه. فبينما كانت تسعى روسيا لتحقيق انجاز سياسي، فإن تركيا لم تستجب لرغبتها فيما يتعلق بتشكيل اللجنة الدستورية. من جهة أخرى فإن الأنباء الواردة عن تفاهمات تركية أمريكية بشأن إقامة منطقة آمنة شرق الفرات قد أزعجت الروس بشدة. فالمنطقة الآمنة التي يتم الحديث عنها والتي من المفترض أن تمتد من جرابلس غربا إلى عين ديوار شرقا على امتداد الحدود التركية السورية سيتم فرض حظر طيران فيها ومنع تقدم النظام السوري وحلفائه من الروس والايرانيين اليها. وهو ما يشكل ضربة لمخططات روسيا بالتقدم إلى هذه المناطق حال الانسحاب الأمريكي من سوريا.
هل تركيا متآمرة مع روسيا في إدلب؟
في الحقيقة، وبعيدا عن الكلام العاطفي الذي قد تفرضه المناظر المؤلمة لأهلنا في إدلب، والرغبة في رؤية دور تركي أكثر فاعلية للجم هذا التغول الروسي، فإننا لا نعتقد بأن تركيا متورطة في أي صفقة مع الروس خلف ما يجري في المحافظة المنكوبة اليوم وذلك لعدة أسباب منطقية:
نعتقد بأن تركيا وقعت مجددا في فخ التوازنات الأمريكية الروسية في سوريا ولا نعتقد بانها متآمرة بأي شكل من الأشكال لما يجري في إدلب من فظائع، إلا أنها للأسف مقيدة اليدين سياسيا وميدانيا
أولا: تركيا كانت الدولة الوحيدة التي بذلك جهود مشهودة وجبارة ووقفت بقوة ضد اقتحام إدلب أواخر العام الماضي واستطاعت أن تقتنص اتفاقية سوتشي مع الروس والتي جنبت المحافظة بالفعل مصيرا أسود.
ثانيا: أن المراقب للوضع الميداني سيجد بوضوح بأن تركيا نفسها مستهدفة منه. فهناك تعمد في قصف محيط نقاط المراقبة التركية المنتشرة في المنطقة، كما أن إحدى هذه النقاط قد تعرضت بالفعل لقصف مدفعي مباشر خلف إصابات في صفوف الجنود الأتراك مما أجبرهم على توفير غطاء جوي لإخلاء الجرحى. أضف إلى ذلك قيام النظام السوري لأول مرة باستهداف قرية مريمين التابعة لعفرين والتي يسيطر عليها الجيش التركي إضافة إلى استهداف الأكراد للجيش التركي وفصائل المعارضة المتحالفة معه انطلاقا من تل رفعت مما تسبب في مقتل عدد من الجنود الاتراك.
قام الجيش التركي بالرد على هذه العمليات وتقدم في تل رفعت على الرغم من وجود تفاهمات مع روسيا تمنع ذلك. فسر البعض التقدم التركي هذا في تل رفعت كصفقة بين تركيا وروسيا بحيث تتقدم الأخيرة في إدلب مقابل تقدم تركيا في ريف حلب، وهذا ما يتنافى مع المنطق السليم وسياق الاحداث.
ثالثا: تشتت وضع المعارضة السورية في إدلب وتناحرها إضافة إلى تصنيف بعض فصائلها على لوائح الإرهاب الدولية، كلها أمور تصعب المهمة التركية وتعيق صانع القرار التركي الذي بات حذرا وكأنه يمشي في حقل للألغام. وعلى الرغم من أن تركيا متحالفة مع بعض الفصائل المقاتلة من المعارضة السورية والتي أظهرت قدرا لا بأس به من الانضباط للتوجيهات التركية، إلا أن تركيا لا تستطيع توجيه هذه الفصائل لقتال النظام السوري أو روسيا.
هذه النقطة معقدة للغاية، فنحن الآن في سياق عملياتي لا يمكن معه المجازفة، فلو وجهت تركيا فصائل المعارضة المحسوبة عليها لقتال الروس أو النظام السوري فسيقود ذلك حتما إلى مواجهة مباشرة مع الجيش التركي الذي سيكون ملزما بدعم هذه الفصائل، وهذا ما سيدخل تركيا في وضع صعب على كل المستويات السياسية والعسكرية، بل يمكننا القول بأن هذا السيناريو هو ما يبحث عنه أعداء تركيا لتوريطها في وضع غير قانوني واتهامها بالوقوف إلى جانب مجموعات إرهابية في إدلب.
في المحصلة، نعتقد بأن تركيا وقعت مجددا في فخ التوازنات الأمريكية الروسية في سوريا ولا نعتقد بانها متآمرة بأي شكل من الأشكال لما يجري في إدلب من فظائع، إلا أنها للأسف مقيدة اليدين سياسيا وميدانيا وغير قادرة فعليا على تقديم الكثير.
د. محمد العمر-دكتوراة في العلوم السياسية
الجزيرة نت