اللغة العربية والتركية بين التأثر والتأثير
يعتبر القرب الجغرافي دائما من أهم العوامل، التي تؤدي إلى تداخل الثقافات المختلفة فيما بينها، سواء كانت لغة أو طقوس أو عادات أو تقاليد أو غير ذلك، كما توجد أسباب أخرى مهمة قد تساهم هي أيضا في تحقيق هذا التداخل بين الثقافات المختلفة.
لكن إذا بحثنا عن أسباب وعوامل التأثر والتأثير بين اللغتين العربية والتركية، أو ثقافتهما معا وجدنا أن هناك أسباب كثيرة تختلف من حيث النسبة والقوة، والتي ساهمت في خلق نوع من التناغم والتشابه بين الثقافة العربية الإسلامية ونظيرتها التركية، وعلى رأسها اللغة وطريقة التواصل.
الإسلام سبب تأثر الأتراك باللغة العربية
يُرجع كثير من الباحثين والمؤرخين والأكاديميين سواء العرب أو الأتراك، سبب تأثر اللغة التركية باللغة العربية إلى اعتناق شعب الأناضول للدين الإسلامي، صحيح أن هذا المعطى ساهم بشكل كبير في معرفة وتعلم الأتراك للغة العربية أو العكس، حيث كان الأتراك يحفظون القرآن الكريم شيوخا وصغارا ذكورا وإناثا في المساجد والكتاتيب القرآنية بشكل دوري.
كما ساهم بشكل كبير في تعلم كثير من الأتراك للغة العربية، هجرتهم إلى الشام وشبه الجزيرة العربية سواء كقبائل أو كأفراد لحفظ القرآن ودراسة العلوم الشرعية وباقي العلوم، أو هجرة بعض العرب إلى الأناضول لتعليم النّاس الدّين الإسلامي، ومع الوقت يتعلمون هم أيضا اللغة والثقافة التركية لكي يستطيعوا التواصل مع الناس.
ومعلوم أن بداية دخول الأتراك للدين الإسلامي كان في بداية القرن الثامن الميلادي إلى أن اعتنقه الشعب التركي بشكل كامل خلال القرن الحادي عشر الميلادي، حيث صار الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.
وقد ساهمت الإمبراطورية العثمانية (الخلافة الإسلامية) في نشر اللغة العربية عبر الفتوحات الإسلامية التي كانت تقوم بها، حتى أصبحت اللغة العثمانية القديمة تكتب بالحروف العربية، حيث أن العثمانيون والسلاجقة اعتمدوا اللغة العربية كلغة رسمية للسياسة والدين والعلوم.
وهذا ساهم أيضا في تعلم العرب للغة التركية والتعرف على ثقافتهم خاصة في المناطق التي كانت خاضعة للنفوذ العثماني، حتى شاعت بينهم اللغة والثقافة التركية بشكل عام، ولكن ليس بالقدر الذي توغلت فيه العربية في المجتمع التركي، حيث أن اللغة التركية يوجد فيها أزيد من 6500 كلمة عربية الأصل، عكس
اللغة العربية التي يتواجد عديد قليل فقط من المفردات التركية، والسبب أن المجتمعات العربية انتشرت فيها اللهجات أكثر من اللغة العربية الفصحى عكس الأتراك الذي يتحدثون لغة موحدة.
الأمر أبعد من ذلك
ولكن إذا قمنا ببحث بسيط، وجدنا أن العرب والأتراك كانت لهم علاقات حتى قبل مجيئ الإسلام بسنوات طوال، وهي علاقات يمكن أن نصفها بغير الودية.
والدليل على ذلك، أننا نجد مجموعة من الشعراء العرب في العصر الجاهلي (يعني قبل مجيء الإسلام) يذكرون الأتراك في قصائدهم الشعرية ، مما يؤكد على أن هناك تواصل بين الشعبين حتى قبل الإسلام بالرغم من أنها لم ترقى إلى ذلك المستوى الذي وصلت إليه في بعد دخول الأتراك في الدين الإسلامي أفواجا.
فمثلا نجد الشاعر الجاهلي "الأعشى ميمون بن قيس"، يقول في إحدى قصائده الشعرية:
ولقد شربت الخمر تركض حولنا تُرْكٌ وكابل.
والأمر ذاته، بالنسبة للشاعر الجاهلي الآخر "النابغة الذبياني"، في إحدى قصائده يرثي فيها أحد الأمراء (العرب) قائلا:
قعدوا له غسان يرجون أوبه ... وتُرْكٌ ورهط الأعجمين وكابل.
وتشير بعض المصادر التاريخية أيضا إلى قصة الشاعر الجاهلي "إمرئ القيس" الذي هاجر من اليمن إلى القسطنطينية (إسطنبول حاليا) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية أنذاك، بعد مقتل والده الملك حجر بن الحارث الكندي على يد بني أسد، ومكث فيها سنوات طويلة حتى تعلم لغة الأتراك وتشبع بثقافتهم، والتحق بجيشهم لمجابهة الفرس لأنه كان يتقن فنون القتال والمصارعة، وكان الإمبراطور البيزنطي"جوستينيانوس الأول" وعده بحكم بلاده ثأرا لمقتل والده.
إلى أن توفي ودفن في هضبة "خضر لك" المطلة على مدينة أنقرة، ومنذ ذلك الحين أصبح أهل هذه المنطقة يطلقون على قبره إسم "عرش تيمورلنك" أو "قبر خضر"، وتم تزيين قبره بقوس حجري لا يزال موجود إلى يومنا هذا.
بعد كل ما تقدم، لا نستطيع الجزم متى بدأت العلاقة بين العرب والأتراك، ولكن الغالب أن العلاقة توطدت بشكل كبير وأثّر بعضهم في بعض بعد دخول الأتراك في دين الإسلام، أيام حكم السلاجقة والعثمانيين، لكن الأمر مر بفترة فراغ بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية خلال القرن العشرين، وتحكم الأحزاب العلمانية الموالية للغرب في مفاصل الدولة التركية الحديثة.
وخلال بداية القرن الواحد والعشرين، تغير الأمر تماما وعادت المياه إلى مجاريها، وهذا ما يفسره تزايد انتشار عدد مدارس الأئمة والخطباء في مختلف المحافظات التركية، الواحدة والثمانين التي تدرس عدد من المواد فيها باللغة العربية.
وفي المقابل ازداد اهتمام الشعوب العربية باللغة والثقافة التركية، عموما خلال السنوات الأخيرة بسبب النهضة الاقتصادية التي حققتها تركيا تحت قيادة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، وتغير السياسة الخارجية لأنقرة في طريقة تعاملها مع قضايا العالم العربي والإسلامية عامة، خاصة بعد الربيع العربي وهجرة كثير من المواطنين العرب إلى تركيا، وعلى وجة الخصوص السوريين والعراقيين واليمنيين، الذين تشهد بلادهم حروب وصراعات، حيث يرون فيها الملاذ الآمن لهم للاستقرار بشكل دائم أو للدراسة والاستثمار.
حيث تعلم الكثير منهم اللغة، عبر مراكز تعلم اللغة التركية التي ينظمها مركز "يونس إمره"، عبر فروعه المنتشرة بشكل كبير في عدد من الدول العربية.