في قرار إعادة انتخابات إسطنبول
في خطوة أثارت كثيراً من الضجيج القانوني والسياسي والإعلامي قررت اللجنة العليا للانتخابات التركية إبطال جزء من نتائج انتخابات بلدية إسطنبول الأخيرة، داعية في 23 حزيران المقبل إلى توجه حوالي 10ملايين ناخب من سكان المدينة لاختيار رئيس بلدية جديد.
القرار جاء بعد اعتراض حزب "العدالة والتنمية" الحاكم على نتيجة فوز مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو والطعن فيها وتقديم أوراق ومستندات تتحدث عن تزوير ومخالفات وخروج عن قانون الانتخابات التركي الذي أعده الحزب الحاكم قبل سنوات. لكن الذريعة القانونية الأهم التي اعتمدتها اللجنة ودفعتها إلى قبول الطعن في النتائج كانت إشراف أشخاص لا يحق لهم ذلك على عملية الاقتراع والفرز والعد حيث إن القانون يلزم أن تتم عملية اختيار الأشخاص الذين سيقومون بهذه المهمة من الموظفين الحكوميين وهذا ما لم يحدث يوم 31 آذار المنصرم في العشرات من مراكز التصويت.
وعلى الفور جرد مرشح المعارضة الذي فاز بفارق 13 ألف صوتا من منصبه وتم تعيين محافظ إسطنبول بالوكالة لإدارة شؤون البلدية في المدينة حتى موعد الانتخابات وسط ضجيج سياسي وإعلامي جديد حمل معه نقاشات حول مسار الديمقراطية في تركيا وسلامتها.
تحليلات ومواقف كثيرة متضاربة بين أنصار القرار والمعارضين له. فمن يدعم القرار يقول إن الاعتراض حق قانوني وإن الذي دفع إلى ذلك هو النتائج المتقاربة بين أصوات الطرفين والمعلومات التي بدأت تظهر إلى العلن حول الخروقات والممارسات غير القانونية في العديد من مراكز التصويت. لكن الرافضين للقرار يتساءلون لماذا ألغيت نتائج انتخابات رئيس البلدية وحدها وليس كل الانتخابات مثل اختيار أعضاء المجالس والمخاتير مع أن أوراق الاقتراع وضعت كلها في ظرف واحد وفي عملية انتخابية واحدة؟
قيادات في العدالة والتنمية وبعد ساعات على إعلان النتائج دعت إلى تقبل ما جرى وقبول خسارة إسطنبول واعتماد أسلوب ولغة سياسية جديدة بينها الدعوة للم شمل المواطنين بكافة ميولهم بدلا من حالة الاصطفافات الحزبية والسياسية القائمة، إلا أن القرار الحزبي صدر بإعطاء الأولوية لعملية إعادة الانتخابات في إسطنبول ومعرفة نتائجها.
إسطنبول لها مكانتها السياسية والحزبية والاجتماعية والاقتصاية بالنسبة لقيادات العدالة والتنمية وهو الرمز الذي سيكون التخلي عنه موجعا
المراقبون في الداخل والخارج كانوا صباح اليوم التالي لإعلان نتائج انتخابات البلديات في عموم تركيا يحاولون رصد ردة فعل العدالة والتنمية وكيف ستكون عملية النقد الذاتي والدروس الواجب استخلاصها من خسارة بلديات المدن الكبرى، لكن الحزب وكما يبدو يريد استرداد إسطنبول مهما كان الثمن حتى ولو كان ذلك مكلفا له سياسيا واجتماعيا وحزبيا وعرض الكثير من الشعارات والمعايير والأسس التي تبناها عند انطلاقته قبل 17 عاما للخطر. إسطنبول لها مكانتها السياسية والحزبية والاجتماعية والاقتصاية بالنسبة لقيادات العدالة والتنمية وهو الرمز الذي سيكون التخلي عنه موجعا.
رغم المسافة الزمنية الواسعة التي تفصلنا عن موعد الانتخابات الجديد إلا أن آخر استطلاعات الرأي بدأت تتحدث عن تقدم أكرم إمام أوغلو مجددا في الانتخابات المرتقبة، خصوصا إذا ما تمكنت أحزاب المعارضة من توحيد صفوفها ونجحت في كسب حزب "الشعوب الديمقراطي" المحسوب على الأكراد في تركيا مرة أخرى إلى جانبها. قرار حزب "السعادة" الإسلامي الذي نجح في الانتخابات الأخيرة بالحصول على 100 ألف صوت هو أيضا في غاية الأهمية في حال اعتمد سحب مرشحه لصالح مرشح المعارضة في إسطنبول. لكن الذي قد يقلب النتيجة لصالح مرشح "تحالف الجمهور" بن علي يلدرم هو عودة أصوات الفئة المغبونة أو الغاضبة أو القلقة للحزب حيث وصلت حسب بعض مراكز الاستطلاعات إلى حوالي 4 بالمئة فهل تعود هذه الفئة إلى حضن الحزب؟
الجديد هذه المرة هو الطلب المقدم من قبل حزب "الشعب الجمهوري" المعارض إلى اللجنة العليا للانتخابات داعيا لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهتها البلاد العام المنصرم، وأن حجته في ذلك هي الحجة نفسها التي ساقها حزب العدالة والتنمية في طلب إلغاء نتائج انتخابات بلدية إسطنبول حيث شارك العشرات من غير الموظفين الرسميين في الإشراف على العملية الانتخابية والفرز والعد. هل تعطيه اللجنة ما يريده؟ وما الذي سيحدث إذا ما استجابت لطلب قانوني من هذا النوع؟ وكيف ستبرر موقفها إذا ما رفضت طلب الحزب وهل ستكون مقنعة في ذلك؟
مرة أخرى يظهر أن قرار الناخب التركي وهو في الطريق إلى الصناديق سيكون تحت تأثير أكثر من عامل سياسي ومعيشي واجتماعي قبل أن يكون حول البرامج المطروحة بين المتنافسين على خدمة إسطنبول وتطوير المدينة فهل ستقنعه مثلا طروحات الاستهداف والمؤامرة التي يتحدث عنها البعض؟ أم أنه سيصغي إلى تحذيرات الكثير من الأصوات والأقلام في الداخل والخارج حول حساسية ودقة مسار الأمور في تركيا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا؟
هناك من يقول إن "العدالة والتنمية" لو ترك نتائج انتخابات إسطنبول جانبا وأعطى أولويته للأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها البلاد لكان استرد فورا ثقة قواعده والمواطن التركي بكافة أطيافه وميوله السياسية والحزبية، لكنه ومن خلال قرار حمل المواطن مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع يكون قد غامر بفتح الأبواب أمام الكثير من المفاجآت السياسية التي قد لا تعجبه عشية يوم الرابع والعشرين من حزيران المقبل.
وهناك من يقول أيضا إن التزام العدالة والتنمية بالنتائج الأولية المعلنة من قبل اللجنة العليا للانتخابات كان سيعطيه الفرصة لاسترداد قوته الشعبية ومراجعة مواقفه وسياساته ليكون أكثر تماسكا وقوة. لكنه اختار التصعيد على هذا النحو لأنه لم يستوعب هزيمة إسطنبول بعد خسارته العديد من المدن الكبرى. الواضح أيضا أن العدالة والتنمية الذي رفض طرح أسباب خسارته للمدن الكبرى في هذه الآونة معطيا الأولوية لمسألة إعادة الانتخابات في إسطنبول قد يجد نفسه أمام ورطة أكبر تتجاوز المراجعة الداخلية في حال نجح مرشح المعارضة في هزيمة بن علي يلدرم مرة أخرى. فكيف سيتصرف الحزب وقياداته إذا ما جاءت نتيجة الانتخابات بعد شهر ونصف مخيبة للامال؟