سوري يعود من ألمانيا..لأنه لم يسمع صوت الأذان
الكاتب :عدنان نعوف
تستدعي أسبابٌ عديدة لا علاقة لها بالدِّين الحديثَ عن دور المسجد في حياة السوريين. إلا أنّ السبب الأكثر دراميّة هو تأثيره على قرارات ومصائر مهاجرين، ليصنع واحدة من أبرز ظواهر وحكايات اللجوء، وأرشقها في مراوغة التأطير والإفلات من الإخراج النهائي.
"هل ستهاجر إلى أوروبا إذا فُتِحت الحدود؟" تسأل إحدى وسائل الإعلام التركية لاجئاً سوريّاً، فيجيب أنه سبق وذهب إلى ألمانيا، ولم تعجبه "لأننا لا نسمع الآذان هناك".
يمكن تخيّلُ التعليقات المكتوبة أو المنطوقة على إجابة اللاجئ، والتي ركّز وسيركّز كثير منها ولا شكّ على اعتباره شخصاً "مجنوناً أو إسلاموياً متديّناً". لكنّ ذلك لن يحجب حقيقة أن الشاب كان صادقاً في التعبير عن هواجس خيّمت على تجارب الباحثين عن أوطان بديلة.
فبعد مرور نحو ثماني سنوات على إحدى أكبر موجات اللجوء، باتَ يُشار بدون تحفظ إلى خيار البقاء في سوريا أو جوارها على أنه" غلطة العمر" أو "تفويت قطار الأمل". وفي المقابل لم يحدُث أن أشار أحد، باستثناء شديد العفوية أو الندم، إلى صوت الآذان أو أي عوامل روحانية كدافع للبقاء في تركيا مثلاً، سواءٌ أكان هذا العامل جوهرياً بنظر صاحبه أم ثانوياً.
ينطبق الأمر على مجمل المرحلة منذ عام 2015 وحتى اليوم. وخلالها لم يكن الخجل ليمنع تداول الفكرة، وإنما القَولبة الإعلامية وخلفياتها السياسية، وفرضُها لما يجب أن يراه الجمهور كي يُكوّنَ انطباعات تعاطفية أو عدائية عن اللاجئين.
ومن جانب السوريين فقد كان منطقياً ألا يبلغ البَوح والمكاشفة لدى قسم كبير منهم هذه المرحلة لأنها توحي بالمزاجية وانعدام الجدية، وتعطي انطباعاً عن صاحبها بأنه سائح أو "شمّام هوا"، وتلك خسارة للاجىء وللقائمين على تسويقه بقالب الضحيّة المشروط بفقدان خصائص إنسانية من رغبات وأمزجة وتفضيلات مجتمعيّة.
ولعلّ ما يلفت النظر في ظاهرة "عشق الآذان" إذا صحّ التعبير هو أنها جمعت خليطاً من سوريين مختلفي الأهواء والحاجات. وبين هؤلاء بسطاءٌ وجدوا في خروجهم من بلد "بالخبز وحده يحيا الإنسان" فرصةً لاكتشاف ذواتهم، وآخرون من أصحاب الامتيازات اغتنموا الفرصة للاستمتاع بتجربة ذات أبعاد شرقيّة، فقرّروا الاستقرار في تركيا ولو مرحلياً، وجاؤوا بإقاماتٍ أو جنسيات أوروبية وأميركيّة وكندية لكي يعيشوا مرحلة "الثورة السورية" بالطول والعرض تحت شمس الأناضول وعلى شواطئه.
وبمرور الزمن وشعور البسطاء المُخدّرين بـ"سحر الشرق" بأنهم أخطأوا التقدير، حاولوا تدارك الأمر بالبحث عن مستقرّ جديد يُعوّض ما فاتهم من سنوات، لِنَصِلَ اليوم بالنتيجة إلى دعوات جماعية وحملات مجهولة الغايات تدعو السوريين في تركيا للإضراب عن أعمالهم، وتسخّن هِمَمَهم، وتحفزهم للسير في قافلة لجوء نحو أوروبا.
ومرة جديدة ينفتح أفق ضبابي أمام الحالمين بحياة أجمل يدفعهم لسؤال أنفسهم عن القرار الصحيح الواجب اتخاذه بعيداً عن التهويلات. ويبقى الخبر الجيد ربما أن محدَثِي النِّعم المنظماتية والإعلامية وسيّاح الثورة لن يدلوا بدلوهم هذه المرّة لأنهم إما عادوا إلى بلدانهم، أو صمتوا بعد أن انطفأ جوعهم لإسداء النصائح وانتهوا من إزالة بقايا الوجبات الدسمة المختبئة بين أسنانهم.
وبينما سيكون سؤال الخطوة التالية حاضراً لدى السوريين مع اقتراب الانتخابات التركية، يتأهب بالمقابل بعض أقرانهم المستقرين في أوروبا منذ سنوات لصفع المنطق على خدّه الآخر!. ومعهم ستكتمل الحكاية السورية الغريبة، بما أن عدداً لا بأس به منهم يمنّي النفس بالانتقال إلى بلد خليجي أو شرق أوسطي، بعد الحصول على جنسية أجنبية. وهؤلاء لن يحرصوا على سماع صوت الآذان وحسب، بل سيسعون لإيجاد مكان مناسب لتربية أبنائهم بمعايير شرقية تقدّر العائلة، وتحميهم من احتمالات تخيير أطفالهم لانتقاء هوية جنسية بديلة مستقبلاً (ذكر، أنثى، ثنائي...) كما يقولون.
يَكمُنُ لهذه المقاربةَ سيلٌ من انتقادات جاهزة، وتتربص بها اتهامات بـ"اللاعقلانية" بقدر ما تنتظرها أيضاً ثناءاتٌ ومباركات لم ينل منها الشاب عاشق الآذان في تركيا سوى القليل. إلا أن هجرة البعض العكسية لو حدثت، فستحمل أبعاداً أوسع، وتتلمس طرقاً لـ "راحة البال"، وللعودة إلى حيث المقدسات الدينية والأمنية والسلطوية معروفة سلفاً، بدلاً من ترقّبِ أن تصبح حماية البيئة وحقوق الحيوان، وصناعة الاختلاف، طقساً حكومياً ومجتمعياً يَصرِف من رصيد المهاجر ضريبة إضافية مادية ونفسية.
ثمّةَ إذاً ما هو أكبر من مسجد أو كنيسة أو أي دار عبادة يُحرّك من خسروا أوطانهم للسير نحو المجهول. وإذا احتفظت الرموز بقيمتها، فلن يغيب الدرس بعد اليوم عن الأنظار، ليُذكّرَ دوماً بأن الموسيقى أثقالٌ في أقدام الباحثين عن الأمان، وأن مطاردة صوت الآذان أو الأجراس أو الوعود بالجنان تنتهي بتحطم آمال المُطارِدِين. تماماً مثلما تتحطم سُفن البحّارة، حسب الأساطير الإغريقية، على صخور جزيرة "سيرانه"، إذا ما رفضوا إغلاق آذانهم، واستمعوا إلى غناء الحوريّات.