انخفاض التضخّم في تركيا إلى أدنى مستوى منذ 4 سنوات
انخفاض التضخّم في تركيا لأدنى مستوى منذ أربع سنوات... بوادر تحوّل اقتصادي جديد
إسطنبول – وكالة نيو تُرك بوست
في تطوّر اقتصادي بارز، أعلنت هيئة الإحصاء التركية (TÜİK) صباح يوم الاثنين 3 نوفمبر 2025 أن معدل التضخّم السنوي في البلاد تراجع إلى 32.87% في شهر أكتوبر، وهو أدنى مستوى تشهده تركيا منذ نهاية عام 2021، بعد أن بلغ 33.3% في سبتمبر، متجاوزًا التوقعات التي رجّحت بقاءه فوق 33%.
البيانات الرسمية الصادرة في الساعة 10:45 صباحًا بتوقيت تركيا جاءت لتؤكد استمرار الاتجاه النزولي في معدلات التضخم للعام الثاني على التوالي، رغم الضغوط المستمرة على الأسعار في قطاعات رئيسية مثل الغذاء والطاقة والسكن.
وبحسب التقرير، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك على أساس شهري بنسبة 2.55% فقط، وهو رقم أدنى من التقديرات التي توقعت 2.8%. في حين سجّلت أسعار السكن قفزة سنوية تجاوزت 50%، والغذاء 34.9%، بينما ارتفعت أسعار الملابس بنسبة 12% في أكتوبر وحده، ما يعكس تفاوتًا بين القطاعات من حيث تأثيرها على المستهلكين.
البنك المركزي التركي... بين الحذر والمرونة
تزامن صدور الأرقام الجديدة مع سياسة نقدية أكثر تحفظًا من البنك المركزي التركي (CBRT)، الذي خفّض مؤخرًا سعر الفائدة الأساسي بمقدار 100 نقطة أساس ليصل إلى 39.5%، في خطوة وُصفت بأنها أكثر حذرًا من تخفيضات العام الماضي، عندما سعى البنك إلى تهدئة الأسواق بعد موجة تضخمية عنيفة.
ووفقًا لمحاضر اجتماع لجنة السياسة النقدية الصادرة قبل أيام، فإن صانعي القرار في البنك المركزي يراقبون عن كثب "المخاطر المتبقية على مسار خفض التضخّم"، مع الإشارة إلى أن أسعار الغذاء والطاقة ما زالت تشكّل التحدي الأكبر أمام الوصول إلى الأهداف المعلنة.
محللون ماليون أشاروا إلى أن استمرار التراجع في التضخم قد يمنح البنك مساحة أكبر للمناورة في الأشهر المقبلة، لكنهم أكدوا أن أيّ تخفيض إضافي للفائدة سيكون "تدريجيًا ومدروسًا" لتجنّب موجة تضخّمية جديدة في بداية عام 2026.
تصريحات محمد شيمشك: «الطريق ليس سهلًا، لكن الاتجاه صحيح»
وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشك صرّح عقب نشر التقرير بأن بلاده تسير في "الاتجاه الصحيح" نحو استقرار الأسعار، رغم ما وصفه بـ"صعوبة الوصول إلى الهدف السنوي المعلن (بين 25% و29%) قبل نهاية العام الجاري".
وأضاف شيمشك أن السياسات النقدية والمالية المنسقة بين الحكومة والبنك المركزي بدأت تؤتي ثمارها، مشيرًا إلى أن معدلات التضخّم ستواصل الانخفاض التدريجي خلال 2026 مع تحسّن بيئة الاستثمار وزيادة الإنتاج المحلي.
وتابع الوزير قائلاً:
"نحن ملتزمون ببرنامج إصلاحي متكامل يقوم على ضبط المالية العامة وتعزيز ثقة المستثمرين، وسنواصل العمل حتى نصل إلى تضخّم أحادي الرقم في أقرب وقت ممكن."
خلفية الأزمة التضخمية: سنوات من التقلبات والضغوط
شهدت تركيا على مدار السنوات الأربع الماضية واحدة من أكثر الفترات الاقتصادية تحديًا في تاريخها الحديث.
فمنذ عام 2021، تجاوز التضخم حاجز 70% في بعض الفترات، مدفوعًا بارتفاع أسعار الطاقة عالميًا، وضعف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، إلى جانب التوسّع في السياسات النقدية التي اعتمدت على خفض أسعار الفائدة لتحفيز النمو.
هذه السياسات، التي وُصفت آنذاك بأنها "غير تقليدية"، تسببت في موجات تضخّم متكررة، وأدت إلى تآكل القوة الشرائية للمواطنين، وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق.
لكن منذ منتصف عام 2023، بدأ التحوّل في النهج الاقتصادي التركي مع تعيين فريق اقتصادي جديد، يقوده محمد شيمشك وحافظة جايا إركان (قبل استقالتها في 2024)، حيث أعاد البنك المركزي توجيه بوصلته نحو سياسة نقدية أكثر تشدّدًا مؤقتًا، قبل أن ينتقل مؤخرًا إلى مرحلة التوازن والمرونة.
ردود الفعل الاقتصادية والسياسية
رحّبت الأوساط الاقتصادية في تركيا بتراجع التضخم إلى ما دون 33%، معتبرةً ذلك "إشارة أولى إلى نجاح مسار الاستقرار"، خاصة بعد أشهر من التقلّبات في الأسعار.
في المقابل، حذّر بعض المحللين من الإفراط في التفاؤل، مشيرين إلى أن التضخّم الأساسي (باستثناء الغذاء والطاقة) لا يزال عند مستويات مرتفعة، وأن الطريق نحو التعافي الكامل يتطلب وقتًا وصبرًا.
من جهتها، وصفت الحكومة التركية النتائج بأنها “دليل على أن السياسات الاقتصادية بدأت تعطي ثمارها”، لكنها شددت على أن "النصر لم يتحقق بعد"، في إشارة إلى استمرار العمل على خفض الأسعار وتحسين ظروف المعيشة.
سياسيًا، يرى مراقبون أن تحسّن المؤشرات الاقتصادية يمنح الحكومة دفعة معنوية مهمة، خصوصًا في ظل استمرار المعارضة بانتقاد غلاء المعيشة وارتفاع الإيجارات وأسعار الغذاء.
التأثيرات الاقتصادية المباشرة
على الاستثمار المحلي والأجنبي:
انخفاض التضخّم يعزّز ثقة المستثمرين ويقلّل من المخاطر المرتبطة بالعملة، مما يفتح الباب أمام تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، خاصة في قطاعات الطاقة والصناعة والسياحة.
على العملة الوطنية (الليرة التركية):
التراجع في التضخّم يخفّف الضغط على الليرة ويدعم استقرارها أمام الدولار، وإن كان التأثير محدودًا في الأجل القصير بسبب العوامل الخارجية مثل أسعار النفط والفائدة الأمريكية.
على المواطن التركي:
رغم التراجع، يبقى التضخّم عند مستوى مرتفع نسبيًا يفوق 30%، ما يعني أن الأسعار لا تزال مرتفعة وأن القدرة الشرائية تحتاج مزيدًا من الوقت للتحسن الفعلي.
على السياسة النقدية:
يتوقّع خبراء الاقتصاد أن يُبقي البنك المركزي على نهج "التخفيض الحذر" في الفائدة، بحيث يوازن بين دعم النمو ومنع عودة التضخّم.
نظرة مستقبلية: هل يستمر الاتجاه التنازلي؟
تشير التقديرات الأولية إلى أن التضخّم في تركيا قد يواصل الانخفاض التدريجي خلال الربع الأول من عام 2026، خاصة إذا استمر استقرار أسعار الغذاء والطاقة عالميًا، مع تحسّن إنتاج السلع المحلية.
ومع ذلك، تبقى المخاطر الخارجية – مثل التوترات في أسواق الطاقة العالمية، وتقلّبات أسعار الفائدة الأمريكية، وتباطؤ الطلب الأوروبي – من العوامل التي قد تعيق تحقيق الأهداف السنوية بالكامل.
وتتوقّع مؤسسات مالية دولية مثل ING Think وJP Morgan أن يتراوح معدل التضخّم في نهاية 2025 بين 30% و31%، على أن يشهد عام 2026 مزيدًا من التراجع إذا استمرت السياسات المالية المنضبطة.
تركيا على أعتاب مرحلة جديدة
يُمثّل انخفاض التضخّم إلى 32.87% في أكتوبر 2025 علامة فارقة في مسار الاقتصاد التركي، ويؤكد أن التحوّل نحو الاستقرار بدأ يتحقق فعلاً بعد سنوات من الضغوط.
لكنّ الطريق ما زال طويلاً نحو تحقيق تضخّم أحادي الرقم، وتحقيق النمو المتوازن الذي يشعر به المواطن في حياته اليومية.
وفي الوقت الذي تمضي فيه الحكومة والبنك المركزي بخطوات محسوبة، تبدو المرحلة المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كان هذا التراجع نقطة تحول دائمة أم استراحة مؤقتة في معركة تركيا الطويلة ضد التضخّم.